دموع قطرية وأخرى جزائرية
كنت في العشرين من عمري حين ذهب الفريق الجزائري لكرة القدم إلى كأس العالم بإسبانيا، وكان الهدف الجزائري في المرمى الألماني حدثا ملأ الدنيا وشغل الناس، بل إن دموع الجزائريين كانت هي العنوان الأكبر لذلك الانتصار الذي لم ينسه التاريخ.
-
أذكر أني بكيت وهتفت وصرخت حتى ملني الصراخ والهتاف، وذهبت حنجرتي وتقطعت حبال صوتي، ثم ها أنا ذا بعد ثلاثين عاما أستيقظ على نصر عربي جديد، تجاوز هذه المرة حدود البلاغة السياسية واللياقة الرياضة، وإني من شدة الفرح والنشوة لأبكي في حضرة الفارس الشاعر قطري ابن الفجاءة الذي كان كما وصفوه طامة كبرى وصاعقة من صواعق الدنيا في الشجاعة والقوة، ثم أبكي كما أجهش ذلك الجزائري (محمد بوزيد) على الجزيرة مباشر، معتذرا عن عدم قدرته على الكلام وانخرط في البكاء من شدة فرحه العربي بما تحقق لقطر، كنت أمسح دموع القلب حتى لا يراني جمهور الجزيرة، وكان ابن الفجاءة عربيا مقيما ومغرما سيدا عزيزا، وكانت الخصال السياسية والإنسانية لقطر فوق الوصف، هكذا دأبها وديدنها حتى مع الذين ظلموها، وقد جاء التتويج في زيوريخ مكتوبا بماء الذهب على جبين أميرها، تتويج في غاية اكتمال الحلة الدبلوماسية القطرية، وسياستها، وما يفعله الجيل القطري الجديد من شباب متوثبين دائما إلى الأمام، من أمثال الشيخ محمد الذي بكى لحظة التتويج، ثم بكى ثم بكى وبكى معه جيل عربي كامل من المحيط إلى الخليج، جيل عربي كان يفتقد بقعة ضوء مشعة، ونقطة فرح صادقة قوية، تعيد له توازنه وثقته بأي أرض عربية لم تلوثها السياسة، ولم يخذلها حب السلطة والمال، ولكن المال والسياسة في قطر يصنعان السلم العربي، ويرممان بقعا عربية أخرى اهترأت واشتدت حروبها وصراعاتها، من فلسطين إلى لبنان، ودول أخرى، إلى فقراء إفريقيا وآسيا والعالم كله، مرورا بدارفور واليمن، وأصقاع كثيرة تمتد إليها يد قطر الكريمة بيضاء من غير سوء أو طمع.
-
هل كان الجيل العربي، جيل البطالة والنكسات المتتالية، والحيطيست (نسبة إلى الحائط) والهزائم والصندويشات والفشكبشك والمخدرات،والموت غرقا في البحر من أجل فيزة أوربية، هل كان إلا منتظرا ومتطلعا إلى لحظة مختلفة من لحظات النصر بعد تلك الهزائم النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تخذلنا جميعا، إنها لحظة النصر القطرية والعربية، صمام الأمان من شأنه أن يصنع كثيرا من التوازن النفسي لنا في هذه الجغرافيا العربية من المحيط إلى الخليج.
-
لقد كسبت قطر ود الشباب العربي والإنسان العربي بامتياز واقتدار، وبإمكانها الآن وقد تحققت المعجزة أن تذهب بالحلم العربي بعيدا بعيدا، لقد تحدث العرب كثيرا عن المعجزة اليابانية والفهود الآسوية، ولطالما كانت الحالة العربية بحاجة إلى فهد أو نمر عربي يدفع عنا أذى الطريق إلى العالم الآخر في حوارنا مع من حولنا من نماذج اقتصادية وسياسية واجتماعية، ولن يكون الطريق هذه المرة إلا من خلال قطر ضمن البعد الرياضي الذي يتخذه الآخرون سلاحا وقوة في تحقيق كينونيتهم ووجودهم، ألم يقل أحد الخبراء الرياضيين الفرنسيين بأن معنى الدولة لم يعد مقتصرا على وجود المعاني الكلاسيكية للدولة من جيش ونشيد وطني وعلم، بل إن الأمم اليوم تضيف إلى كل تلك المعاني الرياضة، أو الفريق الوطني كما قال ذلك الخبير الفرنسي، وأحسب أن العرب الذين كانوا قبل فوز قطر بتنطيم كأس العالم 2022 لا شغل لهم سوى المشاركة في كأس العالم ولو بأغلى التكاليف، ها هم يتشرفون اليوم بتنظيم كأس العالم من خلال دولة قطر، أليس هذا منتهى الأرب في السياسة والرياضة والأدب؟
-
إنه مكسب ثمين حقا للقطريين والجزائريين والمصريين والسعوديين والسوريين والسودانيين واليمنيين والتوانسة والمغاربة، ولكل الدول العربية، بل ولكل شعوب العالم الثالث كما يقال، ولا يمكن في هذا المقام تعداد الغنائم السياسية والاقتصادية والرياضية التي على العرب اغتنامها من خلال قطر، بل يكفي القول إننا وصلنا كعرب وعجزت أمريكا التي تقهرنا في العراق وفي أفغانستان وباكستان وفي فلسطين حليفة لإسرائيل، على أن تتجاوز قطر وملفها الرياضي الذي قدمته للعالم وهي تقول للجميع بفخر وثقة الكبار ها أنا ذا، وعلى الرئيس أوباما إعادة أن النظر في تصريحه غير الدبلوماسي بعد فشل بلده في احتضان كأس العالم وتتويج قطر بذلك.
-
إن الدول مثل الأفراد، والأفراد مثل الدول في حب الأفراح والنصر والتتويج الذي غرس الله حبه في قلب البشر،
-
فالفرح والفرحون من الألفاظ القرآنية الكريمة التي تطرب لها النفس وتسعد لها القلوب، والفرحون هم الفائزون بنصر الله وجنته، ولقد هيأ الله لهذه البقعة العربية النقية فرحا ونصرا تامين كاملين، من شأنهما أن يمسحا التعب العربي كثيرا، من شأنهما أيضا أن يعيدا للأجيال العربية أحلام النصر الكامنة في صدورهم ودمائهم، وأن يقفا في وجه الكآبة العربية وضد الحزن العربي وفي وجه الخذلان العربي والقنوط الذي ران أو كاد على قلوب الناس.
-
لقد كسبت قطر وكسبنا جميعا الفوز والنصر، كسبنا القدرة على تجاوز الوهن العربي، والخذلان المر الذي تزرعه بعض النظم العربية، كسبنا القدرة بعد سنوات من الانتظار على تجاوز الذات، والخوف من الآخر، وعلينا أن نتعلم للمرة الألف أن القوة لم تعد قوة الجيوش والنياشبن والجنرالات، وإرهاب وزارت الداخلية العربية، وملاحقة الرأي الآخر المختلف عن جوقة الحاكم والسلطان، وعدم الخوف من حرية التعبير، ومن الأخرين حين نختلف معهم في الرأي، نعم لقد كسبت قطر وكسب العرب بعد سنوات مرة من الخلاف والشقاق والتنابز والدسائس والمؤامرات التي سقطت فجأة أمام سيف قطري ابن الفجاءة، وعلينا أن نبكي فرحا وأن نتعلم الآن كثيرا من أميرها ومن الشيخة موزة، وجميع أبناء قطر معاني القوة والنصر في أن نكون عاليا في السماء، بعد أن كنا نظن أننا لن نكون.