-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دور النخبة في البناء الحضاري في ضوء فكر مالك بن نبي

بقلم: كريمة بداوي
  • 567
  • 0
دور النخبة في البناء الحضاري في ضوء فكر مالك بن نبي

كان ابن خلدون عالم اجتماع مبدعا، وهو إذ أدلى بملاحظته الثاقبة عما يسمَّى الآن بـ(قانون التكيف) قصَد إلى أن تقليد المغلوب للغالب أمرٌ لا مفرّ منه، فكل مجتمع ناشئ لابد أن يقدِم على الاقتباس والاستعارة من مجتمعات أخرى سبقته حضاريا، لكن الجهد الذي يبذله هذا المجتمع في تكييف وتركيب استعاراته بما يتلاءم وأصوله الثقافية هو الذي يحدد مدى عبقريته ويقظته.
والتركيب غير التلفيق؛ فالأول يقوم به فكرٌ واع مستوعِبٌ لنموذجه الثقافي الأصلي ولشروط استعاراته، والثاني مزيج أو خليط من العناصر الحديثة المستورَدة بلا ضرورة أو ضابط أو تهذيب.

حتى لا نصبح كائنات منقرضة
ولقد شغلت قضيَّة التركيب هذه، مفكري العالم الإسلامي ومصلحيه منذ عهد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى وقتنا الحاضر، ولا نبالغ إذا قلنا إن المفكر مالك بن نبيّ تميز عن غيره بإدراكه العميق لمشكلة التطور والحداثة عند المسلمين، فهي تتّسم بالحساسية وتأخذ طابع الحذر والتريث أكثر منها عند أي مجتمعات أخرى، وذلك راجعٌ في نظره إلى إدراك المسلمين عامّة لقيمة تراثهم الأخلاقي ورغبتهم في إنقاذه، مع إحساسهم بضرورة اندماجهم في عالم زمني لم يتمكّنوا بعد من تمثُّل معاييره والإمساك بقوانينه، فلا أحد منا ينكر -كما يقول بن نبي- بأننا بتنا نعيش في عالم لنا منه أشياؤه المستورَدة، تحاصرنا وتحرِّك حياتنا، بما تُحدثه من تقاليد جديدة، وتولّده من أذواق مستعارة وأفكار غريبة، فالعالم العربي والإسلامي يمر الآن بما يسمى بفترة (اللاتكيف الحضاري) زاد من حدة وطأتها عليه الحروبُ والنزاعات التي تدار على أراضيه، تبدد طاقاته الاجتماعية ومواده الأولية، وتعصف بإنسانه، فتجعله أشبه بكائن منقرض مطارَد مثقل بالهموم والمشاعر السلبية.

مشروع البناء الحضاري
هذه الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية الخاصة، توجب التخطيط نظريا وفنيا حتى يمكن للأمور أن تسير بسرعة تعجّل دخولَ مجتمعاتنا إلى دائرة العمل في الاتجاه المقصود، ولكن دعونا نتمثل أولا قضية التركيب هذه التي سنطلق عليها مشروع البناء الحضاري عند مالك بن نبي.
لابد أن تتضمن هذه العملية جانبين أساسيين:
أولهما: الجانب السيكولوجي.
والثاني: الجانب الفني.
أما الأول: تكون الغاية من ورائه إكساب أفراد الأمة الإسلامية موقفا اجتماعيا يتسم بالإرادة المتصلة والجهود المتواصلة، بإزالة المشاعر السلبية المتراكمة، بأن نمحو من أذهان الناشئة استحالات استقرت وعششت كاستحالة أننا لا نستطيع أن نفعل شيئا، لأننا محكومون تابعون، أو لأننا فقراء معوزون، أو لأننا محتلون، ثم تطوير (الأنا) حسب أهداف ومقاصد مجتمعاتنا، باكتساب عناصر إيجابية جديدة، تبدأ بإعادة سلطان الفكرة على الوعي الإسلامي، فنحن إلى الساعة محكومون بالأشياء وندور في فلكها، فقراء كنا أو أغنياء، نحرص على اقتنائها ونخاف فواتها وانقطاعها.
وعندما تعود للأفكار قيمتها الاجتماعية عندنا، ستقوم مجتمعاتنا بتصفية العديد من الأشياء غير الضرورية من حولنا، بصورة طبيعية، وهنا لن تضطر كل أسرة إلى مواجهة عملية التصفية أو التكرير بمفردها؛ لأن المجتمع قد قام بذلك وفقا لمعاييره.
إن إعادة الثقة إلى الجماهير المسلمة من شأنه أن يعلي من إرادتها وهمَّتها التي ستكون في الواقع العاملَ الأساسي في تطوير الفرد؛ لأن اجتهاده الشخصي من أجل التكيف مع المرحلة الجديدة وهي مرحلة البناء الحضاري ما هو إلا رد فعل منه على ما يقدمه له مجتمعه من ضمانات، ولنقل إن سعادة المرء مرتبطة أساسا بصلته واندماجه في مجتمعه، ولئن كانت مرحلة الواجبات مقدمة على الحقوق إلا أن الأخيرة ثمرة طبيعية للأولى.

دور النخبة المثقفة
وهنا لا يمكن أن نتغاضى عن الدور الذي ينتظر المثقفين المسلمين، هذه النخبة التي لابد لها من اكتساب الفكر الفني، والمبدأ الأخلاقي في سلوكها؛ لأنه لم يعد نافعا اختلافها الفلسفي والنظري حول مفهوم الحداثة، ما دام أن ذلك يلهيها ويبعدها عن ساحة الواجب والعمل.
بل إن كثيرا ماتحولت نظريات الحداثة عند البعض إلى أوثان مجهزة تأخذ بأبصارها عن رؤية فشل هذه النظريات عندما تنقل من بيئتها؛ لأنها لم تتضمن الشروط الضمنية لنجاحها، ما دام أنها قامت على معادلات اجتماعية مختلفة، ولا زالت التجربة الإندونيسية في الميدان الاقتصادي حاضرة في الأذهان، فلم يشفع لأجل إنجاح هذه التجربة كفاءة الألماني شاخت ولا الموارد الأولية الخصبة لإندونيسيا؛ لأنها قامت على معادلة اجتماعية مغايرة أثبتت نفعها مع المجتمع الألماني دون غيره.
وعندما تكتسب نخبنا العربية والمسلمة الفكر الفني الذي سيظهر أثره في التنظيم والتخطيط والتوجيه، والمبدأ الأخلاقي الذي سيجلي موهبة النقد الذاتي عندها ويحرِّرها من نزعة التقليد، لتضطر إلى اختيار المبادئ الليبرالية، ثم وضع المسحة الإسلامية عليها، كما فعلت قبل ذلك مع المبادئ الاشتراكية، بل ستكتشف طرقا أخرى تدفع عجلة اقتصادها وحياتها دون مساس بالمخزون الأخلاقي للمجتمعات العربية والإسلامية الذي هو غلافها الثقافي غير القابل لأدنى رتق أو تحوير ولا يمكن تطويعه بحال من الأحوال للفكر المادي أو تعديله لملاءمته؛ لأن الحداثة ما هي إلا ابتكارٌ أصيل ينبع من داخل المجتمع، ينافي روح التقليد والجمود، ولا ننكر أن الحضارة الغربية ستبقى مرحلة حاسمة في تاريخ الإنسانية بفضل كشوفها الكبيرة التي هزت أطراف الكرة الأرضية وأنحاءها.

مواطنٌ عالمي غير نفعي
لكن حداثة الغرب وعبقريته التي تجلَّت في نموذجه الاجتماعي المنفعي البحت، وفي شعاره (الوقت هو المال)، أرهقت إنسان اليوم، وكانت سببا في معاناته، ولكم كان محمد إقبال محقا عندما تنبأ بدور المسلم المنتظر الذي سيكفكف من مادية الغرب وغلوائه، فهو يراه المواطن العالمي الذي لا يفكر في منفعته الخاصة، بل في تحقيق الأهداف العظمى التي يسعى إليها مجموع الإنسانية، وما عليه من أجل تحقيق الشروط النفسية ليكون هذا الإنسان الجديد، سوى أن يستخدم جميع مواهبه وقدراته على التكيف مع عصره، وأن يتناول العلوم والمعارف بروح من الاستقلال، تخلِّصه من وطأة التقليد لمسلَّمات الغرب التي جعلها شروطا مرتبطة بأي نزوح حداثي، وهذا أيضا ما نحا إليه طه عبد الرحمن عندما أشار إلى أنّ الحداثة الإسلامية العالمية المنتظرة ستصحح واقع الحداثة الحالي؛ لأنها ستهدف إلى الارتقاء بالفعل الحداثي.
ونهضة العالم العربي والإسلامي لن تكون في الفصل بين القيم، إنما في الجمع بين العلم والأخلاق، بين الحاجات المادية والروحية في توازن واعتدال، يمسك بكل تفصيل من تفاصيل الحياة، ليضع عليه طابع الأصالة، التي ما فتئت تحفظ قيمة وكرامة الإنسان.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!