-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ذاكرةُ مدرسة

ذاكرةُ مدرسة

لا أستبعد أن يرشق العنوان باستبهام بمجرد قراءته نظرا لما فيه من استغلاق يجعل الفهم صعب المرام، وأن يشكك في وجاهته من طرف بعض القراء أو جلهم. ومن المحتمل، أن يطرح سؤال يدفن في أحشائه تعجبا قاسيا واستنكارا خشنا، فحواه: هل للمدارس ذاكرات تخزن فيها أحداث ماضيها التي احتضنتها، وكان فضاؤها مسرحا لها؟ ففي ظن الكثير، أن المدرسة تفتقر إلى الذاكرة، لأنها من الجوامد. ولما كانت الكائنات الجامدة عاجزة عن الإدراك، فهي لا تمتلك أدنى قدرة لتخزين المعلومات واسترجاعها في أوقات الحاجة وعندما يقدم داعي الضرورة. إذن، فكيف يقبل الحديث عن ذاكرة المدرسة؟
ليست الوثائق والدفاتر والسجلات والمحفوظات والبيانات ذات الصبغة الإدارية هي التي تصنع لوحدها ذاكرة المدرسة، وتحتفظ بمخزون يومياتها وتصون مدونات تاريخها بعناية من الضياع والاختفاء، وتعكس ما حققته من إنجازات ونجاحات أسعدت بها متعلميها وأفرحت ذويهم، أو ما لحق بها من إخفاقات وانكسارات سوّدت أيامها، ونثرت الحزن في قلوب أبنائها وأوليائهم. وإن مثلت هذه الأشياء جزءا من ذاكرة المدرسة، فهي ذاكرة صامتة ميتة، لأنها لا تبوح بأسرارها، إلا إذا وجدت من يعود إليها ناظرا متفحصا ومستنطقا وباحثا للتزود والاستعلام.
نصادف الذاكرة الحية للمدرسة موزعة بين ذاكرات جحافل أبنائها الذين التحقوا بها منذ أول يوم من افتتاحها، وتعاقبوا عليها دفعة من بعد دفعة، وجيلا إثر جيل. وعاشوا في أجوائها عدة سنوات، وجلسوا في أقسامها متعلمين بين أيدي معلميهم الفضلاء ينهلون مما تيسر لهم من المعارف، ويغرفون أصول وقواعد التربية التي تؤهلهم للتدرج نحو المستقبل، وتجعل منهم نساء ورجالا يقتحمون غياهب الغد للعيش مرتاحين فيه، ومالكين لقدرات التصدي لمشكلاته وقهرها والانتصار عليها، وشاقين طرقهم لتحقيق طموحاتهم والوصول إلى أمنياتهم. وعليه، فإن ذاكرة المدرسة تنام في ذاكرة كل واحد من تلاميذها.
تحفل ذاكرة كل متعلم بشطر من ماضي مدرسته التي آوته بين أقرانه. وخزن في ذهنه أحداث ومواقف مفرحة أو محزنة تراكمت مع تعاقب الأيام عاشها في طور من أطوار تعلمه في مدرسته، ورسخت في ذهنه رسوخا أبديا. وتبقى ذاكرة المدرسة ناصعة ووثابة بمقدار الوفاء الذي يمنحه لها كل واحد من أبنائها من بعد مغادرتها.
بمقدار أقل، يشكل المعلمون والأساتذة، وخاصة من أفنوا جهودهم مع متعلميهم بوفاء وإخلاص وحزم، وصرفوا اجتهادهم في تكوينهم وفق الطرائق التربوية المفيدة وأساليب فنون التعلم النافعة، وخدموا التربية خدمة مزجوا فيها بين تعلقهم برسالتهم وإيمانهم بها، يحتفظ هؤلاء بنصيب من ذاكرات المدارس التي مرّوا بها، وهم خير شهود على تفوّق متعلميهم أو تراجعهم وتخلفهم. وقد يكون للموظفين الإداريين وللعمال أقساط من ذاكرة المدرسة هذه، إلا أن أنصبة المتعلمين هي الأكثر والأوفر والأغلب. ولا أرى من داع أو باعث يقود إلى الخوض في هذا التفوّق، وإشباعه حديثا وشرحا.
يبقى للمدارس ذكر وحضور محفوظان وسريعا الإتيان، لا ينسى ولا يمحى، ولا يقبل الطمس والتغييب حتى وإن أبادت عوادي الزمن بناياتها وجنت عليها تقلبات الدهر وعوامل الطبيعة، وأبقتها أثرا بعد عين، وأطفأت أنوار سراجاتها، وهدمت جدرانها عن آخرها، وقوّضت أعمدتها وسواريها، وتسببت في انهيار سقوفها، وانتهى كل ما فيها إلى أطلال وأنقاض، وتحولّت إلى أكوام من الأتربة والحجارة، أو مُحيت محوا تاما من وجه الأرض. ويكفي أن يشار إلى أن فلانا أو علانا من المجداء وأصحاب الذكر الحميد قد تعلم في مدرسة معينة حتى تستعاد ذكراها ولو بعد طول نسيان. ويشرع الناس في تداول مرويات تاريخها المحشو في الأذهان أو استظهار سطور من ماضيها المثبت في الكتب بالإشادة والتنويه، وبالمدح والإطراء. ومما قرأت منذ أيام قريبة، أن متعلما لبنانيا أصيلا ووفيا علّق بعد أن علم بغلق أبواب مدرسته التي تعلم فيها وتفريق إطاراتها التربوية والإدارية جرّاء الضائقة المالية التي أحاطت بلبنان وأرهقته، علّق تعليقا فيه غصات ألم وشرارات حزن وومضات حسرة ضمنها في قوله: (لم تبق لنا الأزمة حتى الذكريات الجميلة، فقد جرفت في طريقها كل شيء !؟). ولو لم تكن المدرسة ما كانت هذه الذكريات الجميلة التي علقت في ذهن هذا المتعلم الذي لم يتذكر في زمن الضيق والعسر سوى مدرسته.
كلما كانت المدرسة عريقة إلا واتسعت مساحة ذاكرتها، وزادت عمقا وتشعبا وتمددا، وتقدمت في الذكر، وفازت بفائض من إشارات التمجيد المأثور، لا سيما إن كانت من المدارس التي ساهمت في تخريج رجال ونساء حملوا همّ وطنهم، وتجندوا لخدمته، وشقوا طريق سؤدده ورقيه، أو خدموا الإنسانية خدمة عظيمة جليلة في مختلف ميادين الحياة كالدين واللغة والسياسة والطب والفيزياء والأدب والفكر والفلسفة وكل ضروب العلم والمعرفة.
خلفت لنا المدارس الشهيرة وطائرة السمعة في الجزائر آثارا نلمسها في خريجيها من الطلبة والطالبات الذين جسدوا بريق ذاكراتها ولمعانها، وأبقتها كاللآلئ الثمينة والدرر النادرة رغم مرور سنوات طويلة من إنشائها. ولولا شيء من ذلك، لاختفت وإلى الأبد أسماء مدارس كثيرة مثل المدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة والمدرسة الكتانية بقسنطينة والمدرسة الناصرية بخنقة سيدي ناجي ومدرسة مازونة بالغرب الجزائري ومدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المبثوثة في كل ربوع الوطن والمزروعة حتى في البوادي والجبال والقرى والمداشر والفيافي. تظهر ذاكرة المدرسة العلاقة الحميمة والرباط المتين الممدودين بين المدرسة ومن مرّوا بها من جحافل المتعلمين مع تعاقب دورات الأزمنة.
ومن الأكيد، أن هذه العلاقة قد اهتزت وانكمشت في العقود الزمنية الأخيرة بعد أن تقطع خيط الوصل والتفاعل بين المتعلم ومعلمه أو أستاذه بسبب انتشار بلية الدروس اللصوصية الخرمة التي حطمت العلاقة الروحية بينهما ومزقتها، وكرست النفور من المدرسة بإيعاز خفي متولد عن سفه في الأخلاق وانحطاط هالك في المروءة من الذين يفترض أن يصونوا كرامة أنفسهم وأن يحافظوا على علو مكانة المدرسة. ولكن غواية بريق الدرهم الفاني والانقياد لرنين الدينار الزائل أعمى الأبصار ووضع غشاوات على العيون، وبلّد الضمائر، وجرّ أصحاب الأنفس المهزوزة إلى السقوط في حضيض قبول بيع الشرف والعز بأبخس الأثمان وأرخص الأسعار. وترتب عن هذه التصرفات وباء عضال خلف ثقوبا غائرة في ذاكرة المدرسة بعد أن أصيبت العلاقة المقدسة المذكورة في بؤرة قلبها.
لما رأى عدد من الأتراب والأصحاب في مدينة باتنة أن أحب منزل يألفه الإنسان في حياته، ويهوى ذكره والتردد عليه هو المدرسة، تنادى جمع من قدماء متوسطة الشيخ عبد الحميد بن باديس للتجمع فيها صباح يوم الخميس العشرين جويلية الماضي. ولم تكن استجابة من لبوا نداء الحضور سوى وليدة رغبة التقاء زملاء الدراسة واسترجاع الذكريات في شوق وحنين لا يقاومان وبقيت تختلج بين ضلوعهم في صمت. ورغم حرارة الطقس، إلا أن فناء مدرستهم ازدان بهم جميعا، وبدا كالحقل المتباهي بغلاله اليانعة وثماره الناضجة. وكانت الفرصة مناسبة لتقليب صفحات الأيام الخوالي التي قضوها معا في الأذهان ومن خلال الكلمات المتبادلة، واستذكار تفاصيل تعلمهم في الأقسام بكل ما فيها من تركيز واعتناء أو طيش ونزق واللعب في الساحة في أثناء فترات الراحة، واسترجاع صور العلاقات مع أساتذتهم الأحياء منهم والأموات. وقد رأيت من اغرورقت عيناه بالدموع من شدة التأثر لما تعانق مع زملائهم وأساتذته، وتبادلوا التحيات والسؤال عن الأحوال وفعل الأيام. ومع أن الجمع لم يكن غفيرا، إلا أن مكان اللقاء بدا كبناء شامخ وباذخ وكمزار تاريخي له مكانته في قلب كل واحد من الحاضرين الذين تقدم بهم العمر، وابيضت رؤوسهم شيبا، أو هجم عليها الصلع. فلقد طوى الزمن ما يقارب نصف قرن كزمن فاصل بين لحظة مغادرتهم لمدرستهم واللحظة الراهنة.
اكتسى اللقاء طابعا قريبا من العفوية والطوعية والتلقائية، ولم تتخلله لوازم التقييد والتوجيه، ولكنه احتفظ بضوابط النظام والهدوء بفضل التزام الحاضرين كلهم. وغلبت صفة الارتجال على الكلمات القليلة التي ألقيت في الجمع بعد التحاقهم بمطعم المدرسة. وأتيحت لي سانحة إلقاء كلمة موجزة بطلب من بعض الرفقاء. ومن دون إعداد سابق وتحضير ممهد، تحدثت بشيء من الانفعال الذي حاولت كظمه وإخفاءه، وسردت كلمة تضمن محتواها ترفيعا من مقام أستاذتي المحترمة السيدة عبد المالك فريدة التي تعلمت على يديها أولى أبجديات اللغة الإنجليزية في سنتين متتاليتين. وإني واثق من أن الحديث عن هذه المربية التي بلغت أرجى درجات الامتياز الأدائية يحتاج إلى كلام طويل وفسحة واسعة حتى لا يبخس حقها.
قبل الالتحاق بالمنصة للكلام، سمعت صوت أحد المنظمين يخاطبني ويترجاني ألا أطيل، وأن أطلق الاسترسال. وكان الاختصار والتقصير أمرا لازما. ولولا هذا القيد الذي ألجم لساني لأضفت فقرات امتدحت فيها أستاذتنا المتميزة السيدة عبد المالك فريدة مدحا إضافيا، لأن الكلمات التي قلتها صادقا أمام الحاضرين لم تف بالغرض كاملا. فهي من المربيات التي لا يجوز أن يشملها الثناء في كلمات قليلة، وأن تذكر محاسنها التربوية والأدائية في الفصول الدراسية باختصار وشح.
تشكل هذه المبادرة خطوة طيبة ومشكورة في سبيل إبقاء العلاقة قائمة ومستمرة بين المتعلم ومدرسته التي تشكل حضنه الدافئ الثاني بعد الأسرة، ولا تبلى، ولا تتلاشى، ولا تختفي بالتقادم. وهذا هدف سام وشريف لا يجوز التفريط فيه أو تقزيمه. وحتى يتحقق هذا الهدف، فلا يجوز تبني أهداف أخرى خفية وغير معلنة من طرف من لا يحسنون وضع الأمور في نصابها، ويرضون بالتداخل والخلط لخدمة أغراض بعيدة ومنقطعة عن الفعل المنزه بعد مزج حسابات الحقل بحسابات البيدر عقب الدخول في دهاليز ومغارات إقامة روابط بين المتنافرات المتعاكسات التي لا تتجاذب ولا تنسجم. ومن باب مبدئي أولي، ينبغي أن نبقي ذاكرات مدارسنا صافية نقية حتى تظل صورة طبق الأصل لماضيها الذي صنعته براءة متعلميها، وهي براءة خالية من الدغل والغش والجمع بين الغث والسمين الذي يظن أنه ينشأ من الاستغفال. وهذا فعل منبوذ؛ لأنه يستبيح النيات ويخلف في البناء المشترك شروخا وشقوقا لا تندمل، ولا تأخذ في البرء بسرعة. وإذ نؤكد على هذه الملاحظة، فإننا نريدها أن تكون ضمن قائمة معالم خريطة الطريق الكبرى التي ينوي قدماء متوسطة الشيخ عبد الحميد بن باديس رسمها في مستقبل الأيام حتى تكبر مبادرتهم وتزهر في أقرب وقت. وإني اعتقد أن النصح الممحص والإخلاص الممحوض والنقي يصبح واجبا؛ لأنه يشكل وقاية حامية من الزيغ والتيهان سواء أكان الفعل المختلف عليه مقصودا أو غير مقصود.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!