-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ذاكرة الفيل ومحنة السلطة

ذاكرة الفيل ومحنة السلطة

هيرفي بورج Herve Bourges يحبّ الجزائر بالتأكيد، لكنه يحبّها بطريقته الخاصة، أي بقول الحقيقة عن تاريخها السياسي المعاصر كما يراها. فقد عاش فترة طويلة في الجزائر خالص النفس للبحث عن هذه الحقيقة، كما تلمّسها في محيط السياسيين الجزائريين الذين عرفهم عن كثب، وكانوا يبوحون له بأسرار الدولة وخباياها، كما تبوح العشيقة لعشيقها بأسرار زوجها. وها هو يعود هذه الأيام عبر تليفزيون تي ف 5، محاولا تشريح ميكانيزمات السلطة في الجزائر في حلقتين “عصر التسلّط” 1962ـــ 1988 و”عصر الزوابع” 1988ـــ 2012 . والحلقتان الوثائقيتان أنجزتا، والحق يقال، بمهارة كبيرة عن طريق توظيف الأرشيف الوثائقي، والشهادات الحيّة، والتحليل المبني على اختلاف وجهات النظر.

هذا الكاتب الصحفي شغل منصب رئيس تحرير أسبوعية “تيميانياج كريتيان”، التي وقفت مواقف مشرّفة مع الثورة الجزائرية، عاين الواقع الاستعماري، وهو مجنّد في عين آرناث، حيث اهتم بتلقين مبادئ المسرح للشباب الجزائري. بعد الاستقلال منحه بن بلّة الجنسية الجزائرية وعيّنه مستشارا له. ثم مديرا للشباب والتعليم الشعبي، ثم مستشارا في وزارة العدل. بعد انقلاب 1965 التحق هرفي بورج بمكتب وزير الاعلام بشير بومعزة الذي اعترف لي أنه خيّب ظنه لأسباب لن أخض فيها.

ألّف هيرفي بورج كتاب “الجزائر ومحنة الحكم”، وهو الأول من نوعه في تشريح الحكم الجزائري، و”من ذاكرة الفيل”، وساهم في انجاز الفيلم الوثائقي “ميلاد أمة” 1956ــ 1962، وعيّن عن الجانب الفرنسي محافظا لسنة الجزائر في فرنسا، وأخيرا هذا الفيلم الوثائقي الذي يتابعه الجزائريون هذه الأيام، كنوع من التعويض، باهتمام لا نظير له.

مهما اختلفت مع هيرفي بورج، فلا يمكنك أن تنكر عليه معرفته بتاريخ وواقع بلادنا في أدقّ التفاصيل. هو فعلا ذاكرة كذاكرة الفيل، مطلّع على سراديب السلطة في الجزائر إلى حد مذهل، دخل بيوت أغلب رجال السياسة في الجزائر من دون استئذان، ومكّنه البعض من وثائق سريّة يتعذر على غيره الوصول إليها.

المناصب الذي أسندها إليه بن بلّة مكّنته من الولوج إلى خفايا الحكم بما فيه من مقالب وانقلابات، ومن تحالفات تعقد اليوم لينفرط عقدها في اليوم الموالي. وكان بورج، كالممثل المسرحي، يحسن أداء كل الأدوار، يعرف متى يضع القناع ومتى ينزعه.

أهم ما لفت انتباهي، وأنا أعيد قراءة كتابه “الجزائر ومحنة الحكم” الذي صدر عام 1967 بمقدمة لجاك برك، هو توصيفه لجماعة “وجدة”. هذه الجماعة، أو العصبة، تتشكل من خمسة أشخاص، يوّحدها، في رأي هرفي بورج، ماض مشترك، لكنها لم تكن تشكّل كتلة متجانسة.

على رأس هذه الجماعة هواري بومدين الذي كان قبل انقلاب 19 جوان نائب رئيس مجلس الحكومة ووزيرا للدفاع الوطني. يتساءل هيرفي بورج هل كان بومدين فاشيا، تابعا للصين، ناصريا، عربيا متعصبا؟ لا صفة من هذه الصفات تنطبق عليه. بومدين، في رأيه، وطني حتى النخاع، إنسان حريص على احترام مؤسسات الدولة وعلى الشرعية، هو رجل نظام، وليس مغامرا.

أول رجال العصبة عبد العزيز بوتفليقة، سي عبد القادر، يقول هيرفي بورج عنه إنه ملهم جماعة وجدة، إنسان من العيار الثقيل رغم مظهره النحيف،التحق، وهو شاب، بجيش الحدود. شبابه وثقته بالنفس مكناه من إغراء خصومه، يتمتع بسحر طبيعي، يعرف كيف يستغله منحاه حيوية وديناميكية قلّ نظيرها. وثانيهم أحمد مدغري، سي الحسين، وزير الداخلية، سكنه وهم الحفاظ على الدولة. لا يهتم بايديولوجيا اللحظة طالما أنها لا تتعارض مع عمل الدولة.

وثالثهم الشريف بلقاسم، سي جمال، بشوش، ذكي، صاحب نكتة، مثقف السلطة، يخفي دائما مشاعره الحقيقية، دوره تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين.

ورابعهم قايد أحمد، سي سليمان، يختلف عن الآخرين بصراحته، وتشدّده في مواقفه، واعتداده بماضيه النضالي.

كلّهم يحملون أسماء مستعارة أو حركية. سي عبد القادر الآن رئيس الجمهورية، وسي الحسين قيل إنه انتحر بعد أن أصيب بوسواس، وسي جمال انسحب من الحياة السياسية بعد فضائح، وسي سليمان مات في المغرب بعد معارضته اليائسة لبومدين.

هؤلاء صنعوا تاريخ الجزائر المعاصر. وبغض النظر، كما يقول جاك برك، “عن الرجال والأنظمة، فإن الماضي بالنسبة للكثير من الشعوب يشكّل عبئا ثقيلا لا يؤسس للمستقبل…وتصفية الاستعمار هي أن تتذكر نفسك، أن تتذكر المستقبل قبل الماضي”. ونحن حين نتذكر أنفسنا ونتذكر ماضينا ونكتب تاريخنا المعاصر نكتبه بالشعارات وإخفاء الحقائق حينذاك سيتولى كتابته الآخر أو الخصم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!