الرأي

رأس الخيط!

التهامي مجوري
  • 1272
  • 6

ألقى الدكتور الطيب برغوث محاضرة، يوم الجمعة 3 أوت 2018، في الملتقى الرابع لأعلام زمورة، في بلدة زمورة ولاية برج بوعريريج، ضمن ندوة بعنوان “التعليم في الإسلام”، شاركه فيها الدكتور العربي كشاط، والدكتور عمار جيدل، وأدارها الدكتور محمد بوعبد الله، يمكن عنونتها بـ”المنظور” أو “رأس الخيط”، ذلك أن المحاضرة انطلقت من لفت الانتباه إلى أن العملية التعليمية، تبدأ من بناء منظور عن الوجود وعلاقة الإنسان به ورسالته فيه.
وهذا المنظور لا بد من أن يستند إلى ثقافة تمثل فيه المصدرية والمرجعية، كما جاء في مداخلة الدكتور جيدل؛ لأن الواقع تتصارع فيه وتتعايش الكثير من الثقافات والمرجعيات المختلفة والمتنوعة، ولا بد من توطين النفس على بنائها الذاتي، كما جاء في مداخلة الدكتور العربي كشاط، وكل ذلك مشروط بموافقته لسنن الله في الوجود، وإلا فالعبث حليف لكل فعل لا يسير على هذا النهج أو هكذا فهمت.
للدكتور الطيب برغوث مشروع فكري نهضوي ضخم، سماه “تعميم المعرفة والثقافة السننية”، يعتبر فيه أن سبب الأزمة التي يعاني منها العالم اليوم، هي مخالفته لسنن الله في خلقه، سواء في جانبه الغربي الذي أخفق في إسعاد الإنسان، رغم تمكنه من التحكم في جوانب كثيرة من مادياته، أو جانبه الشرقي الذي لا تزال تسيطر عليه العواطف والأوهام، وحسن القصد المصحوب بالإهمال العلمي.
فالأزمة إذا ليست محصورة في جانب واحد من العالم، وإنما هي العالم الشرقي بسبب تخلفه، وفي العالم الغربي، بسبب إهماله لغايات الإنسان السامية، ومراد الله فيه وبه وله.
حاول الدكتور برغوث في هذا المشروع النهضوي الكبير، تفكيك مسائله وتركيبها في أربع كليات سننية، وهي سنن الآفاق، وسنن الأنفس، وسنن الهداية، وسنن التأييد.
ولكل كلية من هذه الكليات، سنن وقوانين تحكمها، وعلى كل من أراد فهم الوجود والنجاح في الحياة والنهضة والإصلاح من إدراكها، ولمن لا يدركها لا يستطيع أن يصل إلى حقائق الأشياء، مهما كان مستوى صدقه وإخلاصه للموضوع وتضحياته؛ لأن من بركات إدراك السنن، الوصول إلى الحقائق العلمية، وفق مراد الله سبحانه وتعالى، سواء تعلق الأمر بالماديات أو بغيرها. فالماديات يحكمها قانون المادة، فيزياء وكيمياء وبيولوجيا…إلخ، وقضايا الإنسان تحكمها قوانين الإجتماع الإنساني، وقضايا التدين والعلاقة بالله تحكمها الشريعة والأحكام العقدية والسلوكية.
وعالمنا اليوم كما نلاحظ أن جزءً منه تَحَكَّم في الكثير من الماديات، وشيء من قضايا الإنسان، ولكنه لا يزال متعثرا في الوصول إلى سر سعادة الإنسان ومصيره، وما تعلق بحياته من أسرار، بسبب إهماله الجانب الغيبي الذي ربما لمسه، ولكنه لم يعبأ به وتجاهله، والجزء الآخر تَحَكَّم في جانب من مصير الإنسان فآمن بمصيره الأخروي، وتَحَكَّم في جزء من إنشغالاته المادية والمعنوية، ولكنه لا يزال يعاني مرارة العيش والضلال الدنيوي، بسبب تخلفه في مجال الأخذ بأسباب الحياة.
فالعالم اليوم إذا تحكمه ثقافتان ناقصتان، ثقافة مادية أهملت جوهر الإنسان وإن أسعدته ماديا، وثقافة روحية هيمنت عليها الأوهام والانشغال بها، على حساب عالم المادة، وكلا التوجهين يحتاج إلى تعديل وتصحيح وغربلة لأفكاره وممارساته، وهو ما يريد الدكتور برغوث استدراكه في مشروعه النهضوي المشار إليه آنفا، خدمة للعلم والدين والحياة والإنسان.
وفي هذا الإطار الكبير كانت مداخلته في الندوة بالملتقى، إذ اعتبر أن موضوع التعليم أو أي موضوع آخر، وفي أي مجال من مجالات الحياة: تعليم، تربية، اجتماع، سياسة، اقتصاد، ثقافة..، لا بد من أن يكون له منظور يسبق التفكير في وضع الخطط والمناهج، وهذا المنظور يمكن تلخيصه كما جاء في المحاضرة، بالإجابة عن هذه الفراغات الهامة التي يشعر بها الإنسان بشكل أو بآخر وهي:
1. من أنا؟
2. من أين جئت؟
3. ماذا أريد في هذا الوجود؟
4. إلى أين المصير؟
اعتبر الدكتور الطيب برغوث أن الإجابة عن هذه التساؤلات هي رأس الخيط في جميع مناحي الحياة، فردية وجماعية، سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، ومنها المسألة التعليمية والتربوية بطبيعة الحال، وكل من يهمل الإجابة عن هذه التساؤلات، سيكون مصير اجتهاداته عملا يشبه العبث؛ لأنه عمل غير مصحوب بما يشفع له من العلم، مثل الحال التي عبر عنها الشاعر إيليا أبو ماضي في رائعته الأدبية الفنية –لولا نَفَسَها الإلحادي-، المسماة “الطلاسم” نختار منها هذه المقطوعات المعبرة عن الحيرة والريب والاضطراب:
جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمشيتُ
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست ادري
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجودْ
هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنني ادري ولكن
لست أدري!
أتراني قبلما أصبحتُ إنسانا سويا
أتراني كنت محواً أم تراني كنت شيئا
ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا
لست أدري، ولماذا لست أدري؟
لست أدري!
قيلَ أدرى الناسِ بالأسرارِ سُكّانُ الصوامعْ
قلتُ إن صحَّ الذي قالوا فإنَّ السرَّ شائعْ
عجباً كيف ترى الشمسَ عيونٌ في براقعْ
والتي لم تتبرقعْ لا تراها
لست أدري
قد دخلتُ الديرَ أستنطقُ فيه الناسكينا
فإذا القومُ من الحيرةِ مثلي باهتونا
غلبَ اليأسُ عليهم فهُمُ مستسلمونا
وإذا بالبابِ مكتوبٌ عليه
لست أدري
إن يك الموت قصاصا ً أي ذنب للطهارة
وإذا كان ثواباً، أي فضل ٍ للدعارة
وإذا كان وما فيه جزاءٌ أو خسارة
فلمَ الأسماء إثم ٌ وصلاح ٌ
لست ادري
إن أكن ابعث بعد الموت جثمانا وعقلا
أتُرى ابعث بعضا أم ترى ابعث كلا
أتُرى ابعث طفلا أم تُرى ابعث كهلا
ثم هل اعرف بعد البعث ذاتي
لست ادري
إنني جئتُ وامضي وأنا لا اعلم ُ
أنا لغزٌ، وذهابي كمجيئي طلسمُ
والذي اوجد هذا اللغز لغزٌ مبهمُ
لا تجادل.. ذو الحجى من قال إني
لست ادري …
لا شك أن هذا النَّفَس الإلحادي لا ينطبق كليا على جميع الناس، ولكنه معبر عن الكثير من قضايا الفكر الإنسانيّ، الذي حاول في جميع مراحل التاريخ البشري، ولا يزال يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات، بكل ما أنتج من العلوم الإنسانية، سواء فيما يتعلق بالحياة الفردية للإنسان ومسؤوليته في هذا الوجود، أو فيما يتعلق بالحياة الجماعية، من قيم ونظم وترتيبات، وكما أسلفنا فإن الإنحراف والخطأ شمل الجميع وينسحب على الكل..، مع تفاوت في الأحكام والمواقف بطبيعة الحال؛ لأن من يهمل سلطان القيم والدين وهيمنته على الإنسان ومصيره، لا يقل سوءً عمن يتجاهل سلطان الحاجة المادية في حياة الإنسان.
إن مهمة هذا الموضوع ليست الإجابة عن هذه الأسئلة، بقدر ما هي لفت انتباه إلى أهمية موضوع يعتبر جذر المشكلات كلها، حتى نخرج من الكلام عن أعراض المشكلات إلى معالجة الأمراض، ولذلك لا نخوض في البحث عن الإجابة الصحيحة عن تلك الأسئلة، وإنما سنقف عند أهمية الإجابة عن هذه الأسئلة التي لفت الدكتور الطيب انتباهنا إليها.
فالإنسان.. قال عنه الفكر البشري وقالت عنه الديانات الكثير، فهو مخلوق مكرم مكلف..، وعند آخرين هو خاضع للتطور كغيره من المخلوقات، فأصله قرد وتطور إلى الصورة التي هو عليها لآن!! وعند آخرين هو محور الوجود لا يعجزه شيء، فهو الذي يصنع مصيره بيده..!! فلا بداية لهذا الوجود ولا نهاية له، وإنما هي ميلاد وحياة وموت!! بينما أهل الشرائع المنزلة يرون أن هذا الإنسان مكلف ومسؤول، ولحياته بداية ونهاية، وسيحاسب على كل صغيرة وكبيرة، على تفاوت بينهم في تقدير هذه الأمور..
وهذه الطروحات المتعلقة بالإنسان، بداية ونهاية وتفاعلا مع الكون والحياة، هي التي بنيت عليها الإجتهادات الفكرية، في كل ما أنتج الإنسان من نظريات، واكتشف من حقائق علمية، فهي المنظور الذي اعتبره الأستاذ الطيب في محاضرته رأس الخيط.

مقالات ذات صلة