الرأي

رأيي في الطرق الصوفية

التهامي مجوري
  • 2056
  • 13
ح.م

أعتقد اعتقادا جازما أن الإسلام هو “دين الله الذي أرسل به جميع أنبيائه ورسله، ودين البشرية الذي لا تسعد إلا به” كما قال إمام الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس، ولا أظن أن فئة من الناس في عصر من العصور، استطاعت التحلي بقيم هذا الدين كله فأصبحت صورته الكاملة، إلا في مدة زمنية قصيرة جدا هي زمني النبوة والخلافة الراشدة، أما عدا ذلك من القرون فكل قرن أخذ منه حظا بما تسمح به له مؤهلاته المادية والمعنوية، والطرق الصوفية فئة من هذه الفئات التي لها وعليها.

على أن الطرق الصوفية مدارس تربوية، تريد الوصول –حسب تصريحات أهلها- إلى درجة الإحسان الذي يعدونه أعلى الدرجات مراتب التدين؛ لأن الدين الإسلامي هو: إيمان وإسلام وإحسان، فمعتنقو الطرق يعتبرون انتماءهم لها مرتبة من مراتب التدين، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى، ولكن مدارها أو القاسم المشترك بينها، هو الاعتقاد بكمال التدين بمجرد الانتماء إلى الطريقة التي ترتقي بهم إلى معالي المراد الإلهي، ومن ذلك تحقيق مبدإ الابتعاد عن الدنيا، وما يترتب عن ذلك من الميل نحو الزهد والفقر والارتباط بالشيوخ والزوايا والأوراد وحلق الذكر…إلخ، وقد ارتبطت التسمية “التصوف” كما قيل بلبس الصوف “إخشوشانا”، وبأهل الصُفَّة، وهم جماعة من فقراء الصحابة، كانوا يسكنون في بيت بجوار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

ومهما تعددت أسباب هذه التسمية –التصوف- ومبرراتها فإن الثابت تاريخيا أن التصوف ليس خاصا بالمسلمين، وإنما هو موجود في جميع الثقافات، فيوجد التصوف المسيحي والتصوف اليهودي والتصوف الهندوسي والتصوف البوذي…، والقيم المشتركة بينهم في الإسلام وفي غيره من الثقافات هو الزهد والمبالغة في التعبد، طلبا للرضوان الإلهي الأكمل، أو تعذيبا للنفس لتنقيتها من أدران الدنيا أو اعتقادا بتخليصها من خطيئة ارتكبها أبونا آدم عليه السلام.

وفي هذه الوقفة لا تعنيني أشكال التصوفات الأخرى التي ذكرتها على سبيل لفت الانتباه، إلى تشابه الانحرافات في جميع الحضارات والثقافات والديانات المنزلة والوضعية، وإنما ما يعنيني هو التصوف الإسلامي، حيث عرف تاريخنا الإسلامي الكثير من الزهاد من الصحابة ومن عمالقة العلم وأئمته الكبار، أمثال أبو ذر الغفاري وأبو الدرداء وعبدالله بن عمر، وأبو هريرة، والفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبو الحارث المحاسبي والإمام الجنيد وأبو حامد الغزالي.. وغيرهم وغيرهم كثير.

فالتصوف بهذه الصيغة لم يزد عن كونه تفوقا شخصيا في تذوق العبادة، وتفنن قوي في التعلق بالله وحبله المتين، وقد كان لهذا التذوق وذلك التفنن القوي، آثار سلبية على المسار الفردي لكل من نهج هذا النهج، فقد قالت زوجة أبي الدرداء لسلمان الفارسي رضي الله عنهما يوما “إن أخاك أبا الدرداء لا حاجة له بالنساء”، وكان أبو هريرة يرى أن غسل اليدين في الوضوء إلى الكتف، وكان أبن عمر يرى أن غسل الوجه في الوضوء يشمل بؤبؤ العين –أي داخل العين- هذا في الصحابة، أما فيمن دونهم فكلام كثير..، ومع ذلك لم يشتهر عن هؤلاء هذه الأفعال رغم أنهم أئمة في الدين، وذلك لأنها من اجتهاداتهم في التفاعل مع الدين، الخاصة بهم وليست قابلة للتعميم، ولم ينكر أحد عنهم أفعالهم باعتبارها خاصة بهم، ولكن لما اجتمعت  مجموعة وسألت عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبروا بها فتقالوها –أي اعتبروها قليلة- وقالوا: أين نحن منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (أنتمُ الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني” [رواه البخاري عن انس بن مالك]، وفي إحدى روايات الحديث انه دعا إلى جمع الناس، وكان لا يدعو إلا إلى أمر هام كإعلان الحرب مثلا…. وقال…. ومن رغب عن سنتي فليس مني.

وما قاله هؤلاء واعتبروه كمال تدين، موجود كله أو بعضه في حياة الصحابة، ولكنه كان كحالات فردية، أما الآن فقد انتقل الأمر من الحالات الفردية المشروعة إلى الحالات الجماعية التي تهدد المنهج؛ لأن انتقال أي فكرة من فرد أو أفراد منفصلين عن بعضهم إلى مجموعة من الناس، انتقال قناعة جزئية أو ذوق، إلى برنامج ومناهج قد لا يكون هو المراد والمطلوب، ولذلك انتفض الرسول صلى الله عليه وسلم، لما علم بما عزمت المجموعة على فعله، فجمع الناس ليبلغهم أن ما أعلنوا عنه هو خروج عن المنهج، ويهدد الإسلام في أصوله وفروعه، ولذلك قال من رغب عن سنتي –أي منهجي- فليس مني، رغم أن ما أعلنوا عنه يمارسه بعض الصحابة، ولم ينكر عليهم؛ لأنهم يمارسون ذلك طلبا للكمال الشخصي والذاتي، ولكن لا يسمح لهم؛ بل لا يسمحون لأنفسهم بتعميمه على الناس والدعوة إليه، ولذلك كان المتصوفة الأوائل لا يسمحون لأتباعهم بالإعلان والجهر بخصوصياتهم، اعتقادا منهم بأن ما توصلوا إليه لا تبلغه كل عقول الناس.

يصعب عليّ البت في التعقيب على التصوف بجميع مدارسة وطرقه؛ لأنه أضحى من لوازم التدين، بحيث اعتبر التصوف مجال من مجالات التدين الصحيح أو علم من علومه مثلما قال الفقيه المالكي عبد الواحد بن عاشر رحمه الله:

في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك.

فاعتبر تعلم الطريقة وتبنيها مثل تعلم العقيدة والفقه، وهذا غير معقول؛ لأن الجهل بالعقيدة يخرج من الملة، والجهل بالفقه يوقع في بطلان العبادة والمعصية، أما ترك الطريقة فلا هذا ولا ذاك، وإنما قد لا يتجاوز التقصير في أسوأ الأحوال.

ورغم هذه الصعوبة فإن الحقيقة هي أن كل ما يتعلق بالسلوك فيما جاوز الواجبات الدينية، يعد من مبالغات المبالغين، ومن الخصوصيات الفردية التي يتفاوت فيها الناس، وليس لذلك حد..، وما كان مبالغة أو خصوصية لا يجوز تعميمه؛ لأن ذلك تكليف بما لا يطاق الذي لا يقره الشرع، على اعتبار أن المقاصد الشرعية في الخطاب الديني هي فيما يليق الجمهور -أي السواد الأعظم والأغلب- وليس فيما كان من الخصوصيات الفردية.

يعتبر بعض رجال التصوف أن مدارسهم ليست إلا مؤسسات تربوية تساعد المرء على تهذيب نفسه وترهيف شعوره وترقيق قلبه، وهذا فيه شيء من الحقيقة، ولكن المتابع لحركة التصوف يلاحظ أن الغالب عليها هو الاهتمام بالذوق، وهذا جانب فني جمالي، لا يمكن جمع الناس عليه، وإذا وقع جمع الناس على شيء من هذا، فإن ذلك ينعكس سلبا على فئات الأمة؛ لأن أصول التربية في الإسلام، في قوة بنائها على المعتقدات والعبادات التي شرعها الإسلام، ويضاف إليها الآداب العامة والأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف المناسبات، كل ذلك قبل الأذواق الفردية والجزئية الخاصة بالأفراد والجماعات العصبيات المتنوعة.

فالطرق الصوفية في تقديري من التجمعات التربوية، التي لا ترتقي في مستواها العلمي إلى مستوى المذاهب الكلامية والفقهية، بحيث من لا ينتسب إليها لا ينقصه شيء في دينه أو دنياه.. أما الانتساب إليها بالضوابط المشار إليها قد تنفع البعض ولا تساعد غيره.

مقالات ذات صلة