-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
يا جزعي عليك يا ولدي يا نبيل (الجزاء الثالث)

رحلة العلاج.. بين الخوف والرجاء

عبد القادر حجار
  • 15805
  • 0
رحلة العلاج.. بين الخوف والرجاء

ولكن ما تكشَّف له من تلك العوالم التي اخترقها، وحلَّ بها، لا ضيفا مكرَّما مرحَّبا به في مدينة ما، بل اعتبره أهلها غازيا متخلِّفا، قد يجلب في عباءته ضروبا من الأوبئة والأمراض، وقد يحمل في رأسه صنوفا من التخلف والجهل، وقد يستصحب في ذهنه نزوقا من الجهالة والعناد، فنفر منه أهلُ الحاضرة، وقد حطَّ برحابهم بدويا بدائيا، أشعثَ الشعر، كاشحَ الخصر، أغبرَ اللون، فتوجسوا منه خيفةً على رقة عيش مدينتهم، ورونق جمالها، وخوفا من مهالعة غيدها، وهي مرحَى تتهادى دلالا وتيها بين شوارعها، فواجهوه بالردع قسوةً، وبالسخرية هزءا، حتى ينطوي وينزوي، علَّه يعود أدراجَه من حيث أتى..

  • وقبل أن يتدبَّر الأمر، ويفكِّرَ في العود، وإذا بغريزة المقاومة التي جاء حاملا إياها بين أضلاعه، وروحِ المناكفة التي زوَّدتْه بها أساطير قريته، تأهبتْ للمقارعة والمصارعة، واستخرجتْ من جرابها سهاما ورماحا للمكافحة والمنافحة، ولأمر لا يدريه في رحم الغيب، وجد نفسَه غريبا فعلا وقولا في مدينة يستعديه كلُّ شيء في سلوك أقوامها، فقرَّر الصمود لفرض الوجود في معركة لم يختر مكانها ولا توقيتها،، وظل على تلك الحال في مصادمة كل معتد أثيم، وكل مستهزئ لئيم، وكل متحدٍّ خصيم، وظل على وضعه ذاك فترةً من الزمن لا يهادن أو يلاين، لا يداري أو يماري، وكله استنفارٌ أمام أي خطر داهم، أو طارئ مباغت، وما أن تفحَّص ميدانَ المعركة حتى وجد دهرَه الهصور لم يترك له نافذة ولو كثقب الإبرة للنجاة، ووجد قانصيه قد أحكموا حوله الطوق، وسدَّوا أمامه أيَّ سبيل أو مخرج، وعمل قدرُه بدوره ما وسعه الجهدُ ليُغلق أمامه نوافذَ الأرض وأبوابَ السماء، حتى لا مندوحة أو وسيلةً بيده تُنقذه من الشراك المنصوبة في أيِّ مسلك يريده، ولا من الأحابيل المضروبة على كل شبر يُتوقَّع أن تطأه قدماه، ولولا صبُره وإيمانُه بخالقه، واعتقادُه فيه بأنه مُفرجٌ كربَه ذات يوم، والفتي عليم بالحدس أو بالاستنتاج بقدرية الدهر وجبريته، وأن ما يلاقيه في متاهات الحياة، هو أمر قضى في مكان ما من مشيئة الغيب وأُبرم، لكنَّ ثقتَه في العناية الربانية كانت كبيرةً بسعة الكون، معتقدا جازما بأنها تُنقذه بطريقة‮ ‬تعنُّ‮ ‬عن‮ ‬التصديق‮ ‬من‮ ‬براثن‮ ‬الهلاك‮ ‬المحقق،‮ ‬وفعلا،‮ ‬كان‮ ‬طوق‮ ‬النجاة‮ ‬الملقَى‮ ‬إليه،‮ ‬وهو‮ ‬في‮ ‬لجُج‮ ‬الأمواج‮ ‬العاصفة‮ ‬للوصول‮ ‬به‮ ‬إلى‮ ‬شاطئ‮ ‬الأمان،‮ ‬كأنه‮ ‬ضربٌ‮ ‬من‮ ‬الخوارق‮ ‬والمعجزات‮. ‬
  • ولكن ما حيلتي هذه المرةَ يا نبيل، وها هو ذا القضاء يُصيبني فيك يرزأني، يا قطعةً من فلذة كبِدٍ مزَّقته المحنُ والإحن، ها هو ذا يفجعني في ولدي مرضا مباغتا بدون عوارضَ أو أعراض، وهو غضٌّ طري في ريعان الزهور من عمر الشباب، ها هو ذا قدري يباغتنني عن غرة من أمري فيك يا ولدي، كما تعوَّد أن يفعل معي من قبل، ودون أن يُمهلَني برهةً للتهيؤ والاستعداد، ها هو ذا خبرُ مرضك ينزل علي كالصاعقة، يعصف بكينونتي، ارتجَّ علي حتى خشيتُ أني فقدتُ الاتزان، خبرٌ يأتيني من مهاتفة غير منتظرة، وأنا بالخرطوم على لسان الحاجة والدتك، أمِّك الملتاعةِ الخائفةِ المرتجفة، تُخبرني بصوت متهدِّج تخنُقه الزفرات، مصحوبا بهلع بيِّنٍ يقطع أنفاسَها، وبفزع مرتعش تبلِّلُه دموعُها، وبعبارات متلعثمةٍ لا تكاد تُبين: الحاج! نبيل مريض، وأن حالتَه الصحية في خطر، وأن الأستاذة باجي، طبيبةَ العائلة، والمختصةَ في الأمراض البطنية، تؤكد، بأن مرضه هو نسخةٌ من مرض عميْه الطاهر وأحمد، واللذيْن أُجريتْ لهما عمليةٌ جراحية خطيرة ومؤلمة، تمتْ بإزالة المعي الغليظ كلية، وأكَّدت الأستاذة باجي، بأن هذا النوعَ من المرض الذي ظهر في العديد من أفراد العائلة، هو مرض وراثي يجب اجتثاثه،‮ ‬قبل‮ ‬أن‮ ‬يتسع‮ ‬وينتشر،‮ ‬وأن‮ ‬مرضَ‮ ‬نبيل‮ ‬في‮ ‬حالة‮ ‬مزمنةٍ‮ ‬تستوجب‮ ‬إجراءَ‮ ‬العملية‮ ‬بالخارج‮ ‬بين‮ ‬أسبوع‮ ‬وعشرة‮ ‬أيام‮ ‬على‮ ‬الأكثر‮. ‬
  • يا لها من أم شجيةٍ شاكيةٍ باكية، قلتُها في نفسي همسا، وأنا أشاطرُها فزعَها على ولدنا، وسكتُّ قليلا حتى أتماسكَ من هول الصدمة قبل أن أجيبَها، ومن خبرتي الطويلة مع الأوجاع والأصداع، ومن معرفتي السابقة بنوع مرض نبيل وخطورته، المرض الذي كان عماه الطاهر وأحمد عرضةً لمشارطه ومباضعه، المرض الذي بدا على جسم الطاهر بعد العملية الجراحية مباشرة، وأُخيَّي نَفَسٌ خافتٌ يتردَّد بين الموت والحياة، وهو جثةٌ ممغنطة، ولولا بقايا من حرارة خفيفة عند ملامسة ذراعه، وأنا أكبُّ أقبِّل جبهتَه ووجنتَه حنيا حزينا، ياله من منظر كئيب رهيب ذلك الذي رأيتُه، رأيت أنابيبَ وقنواتٍ خارجةً من أطراف عدة من جسم الطاهر، مخرجا وبطنا وأنفا، وإبرا مغروزةً بالأذرع، وأوعيةَ المحاليل (السيروم) تتقاطر في شرايينه لتغذيته، وحُقَنَ المورفين تنساب بأوردته لتخفيف قسوة أوجاع الجراح المفتوحة ببطنه، تعاقبت تلك الصور الرهيبة أمام ناظري، وأظهرتُ من نبرات صوتي قوةً وثقةً في الله أولا، وفي الطب المتطور ثانيا، ورحتُ أردُّ عليها من خلال الهاتف لأخفِّفَ من روعها، وأهدِّئَ من هلعها، وقدَّمتُ لها أمثلةً جاهزة على تجاوزه عميْه العمليةَ بنجاح، وهما في صحة جيدة بحمد الله، ووعدتُها بالتحرك سريعا لإتمام الإجراءات عن طريق الخارجية للحصول على التأشيرة، ومع وزارتيْ الصحة والعمل لمنحه شهادة الكفالة للاستشفاء، وأسترخص من الرئيس بوتفليقة التنقلَ إلى باريس، حيث أكون حاضرا عند الوصول، وخلال مرحلة الإعداد والفحوص، وسألازم المستشفى حتى تُجرَى له العمليةُ إن شاء اللهُ بنجاح، وطلبتُ منها الاستعدادَ لمرافقته باتخاذ إجراءات السفر هي وعمه الطاهر، باعتباره مجرِّبا لتلك العملية حتى يشدَّ من أزره، ويهوِّنَ عليه بالترويح عن مدى سهولتها، وهو يعرف كم هي قاسية ومؤلمة، وتكون والدتُه بجانبه تساعده بالحنو والعطف والدعاء، ويكون أبوه ساهرا عليه يحدِّثه عن نوع العمليات الجراحية التي اخترقتْ جسمه في العديد من أجزائه، من اقتطاع جزء من عظم بجمجمته، مرورا بعمليات في مواطن شتى من جسده، إلى كسر أليم رهيب بكاحله، وها هو يراه بحمد الله حيّا معافى مشافى، ولكنَّ قدرةَ الله وعنايتَه أقدر وأقوى من وخزات النار أيام التعذيب في أقبية الاستعمار، ومن جراح وشقاوة العمليات، ضربتُ هذه الأمثلة للأم المتألمة لتنقلَها على لساني تشجيعا لولدي على المصابرة في عملية مثل هذه، وخاصة أن العمليةَ تجرَى بنفس المستشفى، ومع نفس الطبيب، البروفسور بارك، وهو من أكبِر وأشهرِ الأخصائيين في مثل هذه الأمراض، وطاقمه شبه الطبي بهذا المشفى في غاية المهنية واللياقة والسهر، كلامٌ مطمئن وجهتُه قصدا لوالدته حتى تأمنَ وتهدأ، خوفا من أن هلعَها ذاك يبعث في نفس المريض توجسا مضاعفا من القلق والفزع، ويؤثِّر على معنوياته التي هي السلاح الوحيد والقوي في مثل هذا الامتحان العصيب الرهيب، ونبيل يتخيل المشارح والمباضع تشقُّ بطنه، وتُزيل الورمَ الخبيث من أمعائه، وهو في حالة تنويم بالبنج شاملة تبعث لا محالةَ على الخوف والقلق، والخوف في مثل هذه الأوضاع حالة نفسية لا إرادية،‮ ‬تكون‮ ‬فيها‮ ‬درجة‮ ‬الانفعال‮ ‬والترقب‮ ‬أشدَّ‮ ‬بكثير‮ ‬من‮ ‬التظاهر‮ ‬بالشجاعة‮ ‬والاصطبار،‮ ‬وتكون‮ ‬حركة‮ ‬التردُّد‮ ‬والإحجام‮ ‬أعلى‮ ‬هوسا‮ ‬وتوجُّسا‮ ‬من‮ ‬درجة‮ ‬الإقدام‮ ‬على‮ ‬خطر‮ ‬داهم‮ ‬قابل‮ ‬لكل‮ ‬المفاجئات‮.‬
  • وهذا الامتحان العسير المرير عرفته في حياتي شخصيا سبعَ مرات متعاقبة، وكنت ألقاه بنفس لا تهب ولا تجِل لكثرة ما عركتْها الأيام في خضم الابتلاء والتجارب، وفي معمعان الصراع والشدائد، حتى ظننتُ حقا أو توهُّما بأن غريزة الخوف قد انتفت ومُحيت من بين الأحشاء أو تكاد، لتعرُّضها لصنوف من المهالك لا تُعد ولا تحصى، وعبر دروب من المسالك البالغة الوعورة والخطورة يفترض ألا منجاة بعدها، يصادفه الموت غيَر ما مرة على ميعاد، ويمدُّ يديْه بخشونة وقسوة نحو عنقه ليكتُمَ أنفاسَه حتى يخالَ القدر المجلَّى هلَّ وحلَّ، لكن الأجل المرقون ليوم معلوم يجعله يتراجع بلباقة وأناقة، وبيسر ومجاملة، كأنه غير الذي كان منذ لحظات مهيئا لكتم الأنفاس ووقف النبضات، وربما يكون تراجعه ذاك المهذب تنفيذا لأمر ممن له حق الإماتة والإحياء، فيُطيع وينصاع، أو لقراءة من سجل المعنَّى الذي بين يديه، فيتأكَّد من خلاله من أن ساعة الرحيل لم يحن أوانُها، قلتُ كلاما لوالدته تهيئةً لنبيلَ حتى يلقى مصيرَه بشجاعة ورجولة، مستخلصا الدروسَ من تجارب وبلايا أبيه، ليُقدمَ على العملية الجراحية، ونفسُه مطمئنةٌ لنجاحها، وجسمُه مستعدٌّ للمباضع والجراحة لتحديها، وقلبُه يستقوي بإيمان‮ ‬في‮ ‬الله‮ ‬يُسعفه‮ ‬على‮ ‬تحمّل‮ ‬آثار‮ ‬العملية‮ ‬وقسوتها‮ ‬من‮ ‬آلام‮ ‬وأوجاع،‮ ‬لفترة‮ ‬قصيرة‮ ‬تُعد‮ ‬إن‮ ‬شاء‮ ‬الُله‮ ‬بالأيام‮.‬
  • وعاجلتُ بعد سماع الخبر الحزين إلى إخبار الرئيس بوتفليقة، المتواجدِ في الخرطوم في القمة العربية، عن طريق من كان قريبا منه، وهو في لقاء على ما يبدو مع العقيد معمر القذافي، وإذا بالجواب يأتي سريعا منه يرخِّص لي الانتقالَ الفوري لاتخاذ الإجراءات المستعجلة لنقل المريض للعلاج، وبادرتُ بالاتصال مهاتفةً لذوي الصلة بوزارتيْ الصحة والعمل، وكان الإجراءُ سريعا، فجازى الله الزميليْن خيرا على تلك العناية، والمشاركةِ معي قلقي على خطر مرض الوليد. كما اتصلتُ بزملائي بوزارة الخارجية، أرجوهم التحرُّكَ سريعا مع السفارة الفرنسية لاستصدار تأشيرة لنبيل وأمه وأخته، لأن عمَّه الطاهر الذي قرَّر مصاحبتَه، كانت معه التأشيرة جاهزةً منذُ قبل، ووصلتُ باريس بحيرتي على ولدي وعلى نفسي معا، لأن أطبائي بباريسَ يعرفون عني من قبلُ هذا المرضَ اللعينَ بأنه وراثي، وقد خضعتُ قبل اليوم مرتين لإجراء عمليتين لإزالة الأورام اللصيقة بالمعي الغليظ، وكان التاريخُ محدَّدا من قبلُ في شهر أفريل 2006، فاتصلتُ بطبيبي المتابع لملفي لتحديد موعد لإجراء العملية الثالثة على نفس الأورام، وذاك ما تمَّ حالَ وصولي إلى باريس قبل وصول نبيل، والذي أخذتْ منه إجراءاتُ التأشيرة بعضَ الوقت. فانتهزتُ الفرصة، وأنا بالمستشفى لإجراء عملية أخرى على الكاحل لإزالة قطعة الحديد المسمَّرة بالرجل ببراغيها الستة المحدوْدبة، والتي كانت جزءً مؤلما مستديما منذ تعرُّضي لكسر خطير سنة 1992 ، حيث بقيتُ أعايشُها جسما غريبا صلدا مؤثِّرا عليَّ عند السير، أو مع تغيُّر المناخ، وخاصةً فصلَ الشتاء، والتي كانت تُثير فِرَقَ الأمن بالمطارات بصريرها بعد مروري تحت أجهزة الإنذار، فيستنفرون هلعا، ويقومون بتمرير جهازهم الحساس على كل مناطق الجسم، فلا يجدون شيئا، لكنَّ جهازَهم يظل يبعث الرنين كأنه عزفٌ وحشيُ النبرات، فيلجأون إلى التفتيش اليدوي يتحسَّسون ويتلمَّسون، فلا يعثرون على شيء يُسكت طنيَن جهازهم ذاك اللعين، وأنا أضحك في سري على فزعهم، وعند الضرورة أو المبالغة من طرفهم في التدقيق والتبقيق، أُظهر لهم جوازَ السفر الديبلوماسي بلونه الأحمر، وحصانته الواقية، فيفتحون الطريق مع إشارة الاحترام، وقد كنتُ منذ لحظات عندهم قبلها محلَّ ريبةٍ وشك، وخاصةً بشَرتي العربية التي تكفي وحدها لتجعلَ مني عضوا محتملا في خلايا القاعدة، أو شبكات الإرهاب، وكأني أحسُّ في نفوسهم شيئا من التوجُّس حول ذلك الرنين، ولكنَّ مكانةَ السفير تفرض عليهم‮ ‬المعاملةَ‮ ‬بوقار‮.‬
  • تلك القطعةُ الحديديةُ اللعينة التي كانت تُثير الفزعَ لرجال الأمن بالمطارات، والتي كانت تُرهقني بأوجاعها عند السير أو البرد لمدة ثلاثةَ عشرَ عاما، هي التي قررتُ إجراءَ العملية لإزالتها، شفاءً للرِّجل من الأوجاع، وراحةً للنفس من وجود جسم غريب بالجسم، وطمأنةً مستقبلا لحراس المطارات من الريبة والهلع، والحمد لله، فقد تمت العمليتان على الزوائد بالمعي الغليظ، وعلى الرِّجل بإزالة القطعة الحديد بسلام، مع ما يصاحب أيَّ نوع من العمليات الجراحية من وخز بالإبر للإعداد والاستعداد، وأمصال لتسكين الآلام المبرَّحة بعد الجراح، وأدويةٍ متنوعةٍ لاتِّقاء أية مضاعفاتٍ بالسيلان أو الاحتقان، وقبلها تُزرَع بالوريد حقنةٌ للتخدير العام، قد تعقُبها الصحوةُ والاستيقاظ، أو يبقى صاحبُها في سُبات عميق حتى يفزعَ من صرخة الصور في يوم النشور، تلك خطورةُ كلِّ عمليةٍ جراحية يتعرض لها المرء في حياته، كانت صغيرةً أم كبيرة، ولا تسلْ عما يسبقها من حالة نفسية معقَّدة، وذاك حسبَ صلابةِ القلب أو وهنِه، وحسب رباطةِ الجأش أو اضطرابِه، وحسب توازنِ الفكر أو اختلاله، وحسب الإقدامِ على المخاطرة أو الإحجام عنها، وقبل هذا وذاك، مدى ثقةِ العبد في الاتكال على خالقه الذي جلَّتْ عظمتُه، وتسليمِ الأمر إليه، وازديادِ الوثوق في قدرته، والإيمانِ المطلق بأنه وحده عليمٌ بميقات أجل الفرد المرقون في سجِّل محفوظ، لا تُنهيه العملياتُ الجراحية مهما كانت خطورتُها ودقتُها، ولا الأسقامُ المزمنة مهما تعددت عللُها ومصادرُها، ولا شظايا القنابل المنفجرة أمامك أو حولك في عزِّ المعارك مهما كان تصويبُها أو تسديدُها، ولا العواصفُ في لجج البحار، وأشرعتُك ريشةٌ في مهب الرياح، مهما كان عنفوانُها وهيجانُها، أو الفيضاناتُ الهادرة، وهي تحطِّمُ المبانيَ والمغاني، وتقتلع الأشجارَ من جذورها بجذوعها، لا يبقى بعد طوفانها قائمٌ أو مائلٌ إلا وجرفته بعتو، ليصيرَ ذراتٍ متناثرةً تحت الأرض ممتزجا من شدة التدمير بأطيانها،، أو الزلازلُ المروِّعةُ التي تترك في لمح من بصر أقواما من البشر صرعَى هلكَى منثورة الأجداث في التلال والفجوج، أو في المدن والقرى، مصحوبةً بإحداث خسائرَ بشريةٍ وماديةٍ في منطقة أو مناطقَ بأكملها، لتنقلبَ رأسا على عقب، فيُصبحَ أسفلُها عاليَها، وعاليها خبرا بعد عين، ومع ذلك ترى من لم يحنْ أجلُه بعدُ، يخرج من الغرق في البحر أو الفيضان سالما، يعتصر ثيابَه المبتلَّة كأنما أصابه رشٌّ من رذاذ، وترى من يخرج من المعارك الطاحنة، ومن تحت القذائف والصواريخ اللاهبة، ينفضُ غبارَها حيا من فوق جسده كأنه خارجٌ لتوِّه من مباراة في لعبة الموت والحياة، وكأن الشظايا المتطايرةَ عليها غشاوةٌ لا تُبصر جسدَه المتحرك، ولا تُحسُّ أنفاسَه اللاهثة، وتفقد مجراها المحدَّدَ بدقة على أجهزة الحاسوب، كذلك ينجو الإنسان من الزلازل، وهي تدكُّ البيوتَ تسويةً بالأرض، وأحيانا تغوص بها للدرك الأسفل منها، ويبقى الإنسانُ كذا يوما تحت الردم، لم يبق له من الحياة إلا شهيق وزفير يُخرجه أنينا متأوِّها تلتقطه أجهزة التنصُّت لرجال الإنقاذ، فتمتدُّ له أذرع الحياة الرحيمة ليتنشقَ الهواءَ الطلقَ من جديد فوق أديم الأرض، فيروح يعفِّر جبينَه بالركوع فوق ثراها إنْ كان مسلما، أو يستعيُن بالرموز والطقوس حسب معتقداته ضربا من العرفان والامتنان، تلك هي الآجال، لا تقصِّر من طولها الأحداثُ ولا الحوادث، وتلك هي المقادير، لا تحول عن مجراها المرسوم في رحم الغيب بالمصادفة أو التدبير، وتلك هي صيرورةُ الأعمار، لا تفنى بالفواجع أو المفاجئات، ولا تخلُد بالتخطيط والحسابات، وتلك هي سنةُ الحياة، تتماوج وتتعرَّج بنا بين شقاوة وسعادة، وبين صحة ومرض، وبين فرح وحزن، وذاك من يوم الميلاد حتى تتوقف أنفاسنا في صدورنا بالطريقة التي خطَّها مسبقا لنا قدرُنا، فوقتها نبقى جثثا هامدةً في قعر من تراب بداية، ثم تصير العظام رميما ديمومة، وسوف تظل الأرواح معلَّقةً منتظرةً مصائرَها في مكان ما من الملكوت حتى تحيَن النفرةُ ليوم الميعاد.
  • هكذا سارعتُ إلى المستشفى قبلك يا نبيل، وذلك لإجراء عمليتيْن متعاقبتيْن في زمن قصير، ذهبتُ معتقدا بتصور للموت أو الحياة، وبفهم للهلاك أو النجاة، وعزم لمواجهة الأمر المحتوم غير واجل ولا مرتاب، مسلِّما أمريَ لمن بيده الإماتة والإحياء. ذهبتُ إلى المستشفى بهذه التجارب‮ ‬المستفادة‮ ‬من‮ ‬مسيرة‮ ‬الحياة،‮ ‬وبهذه‮ ‬الأطروحات‮ ‬المستنتجة‮ ‬من‮ ‬إيحاءات‮ ‬الفكر،‮ ‬وبهذه‮ ‬القدرة‮ ‬المعتصرة‮ ‬من‮ ‬ضروب‮ ‬الصبر،‮ ‬وبهذه‮ ‬الشجاعة‮ ‬المستخلصة‮ ‬من‮ ‬مقاومة‮ ‬القلب‮.‬
  • كذا هيّأتُ نفسي لاستقبالك يا نبيل، جئتُك بعد نجاح العمليتين بروح معنوية عالية، وهو يحطُّ رحالَه بباريس، مصحوبا بعمه الطاهر، وأمه الحاجة ربيعة، ليستمدَّ من أبيه دروسا في الإقدام على إجراء العملية الجراحية بجرأة لا يجل ولا يتهيب، كنت أُعدُّه كيف يسلِّم أمرَه لخالقه لا يتخوف أو يرتاب، كنت أبثُّ فيه روحَ التحمُّل والمكابدة، وهو يمدُّ جسمَه المملوءَ بحيوية الشباب وعنفوانه للمشارط والمباضع، لا يهابها أو يرهبها، وهي تشق بطنه لإزالة الورم الخبيث من بين أحشائه، كنتُ أُوعز إليه ليقارنَ بين ما هو مُقدمٌ عليه، وبين ما أقدمَ‮ ‬عليه‮ ‬أبوه‮ ‬يوم‮ ‬كان‮ ‬في‮ ‬مثل‮ ‬سنه،‮ ‬وحتى‮ ‬قبلَها،‮ ‬والذي‮ ‬ما‮ ‬زال‮ ‬يُقدم‮ ‬عليه‮ ‬حتى‮ ‬الآن،‮ ‬والعمرُ‮ ‬يحث‮ ‬الخطى‮ ‬حثيثا‮ ‬يسير‮ ‬ويتقدَّم‮. ‬
  • وقضينا الليلةَ بالفندق، أسامرُه أنا حينا لأهوِّن عليه تصوُّرَ العملية نوعا من بثِّ الطمأنينة في نفسه، والشجاعة في قلبه، ويحادثه عمُّه الطاهر، يقصُّ عليه كيف استعاد عافيته بعد العملية الجراحية التي أُجريتْ له ولعمه أحمد منذ سنتين لنفس المرض، ومع نفس الأستاذ الطبيب، وذاك إزالةً لكل خوف قد يعتريه، أو هاجس من الموت قد يعتورُه، وحاولتْ أمُّه أن تتظاهر أمامه بالهدوء طبقا لوصايا أشرتُ بها عليها حتى لا تهوِّل الأمرَ عليه، ولكنَّ علامةَ الحزن كانت باديةً على محياها، وشيئا من الاضطراب تحاول إخفاءَه على ولدها الأكبر، ولكنَّ ملامحَها كانت تعبِّر بوضوح عن لواعجِ الأم وخوالجها. ودارت مسامرتُنا نحن الأربعةَ في تلك الليلة تمضيةً للوقت حول بعض التجارب والأحداث، والتي أشرتُ إليها سابقا من حياة الأب في مساره الطويل حتى يحسَّ نبيل، وهو متجهٌ غدا صباحا إلى المستشفى، بأن عمليته الجراحية تلك لا تعدو أن تكونَ مجردَ تجربةٍ عابرة سيذكرها يوما، وبأنه لم يعشْ بدوره حياةً رغدة خاليةً من المنغصات، وأنه خضع للجراحة كآلاف البشر، وذاق شيئا من مرارتها، وأن جسده تعرض مثل بعضهم للمباضع والتشريط، ويعتزُّ أكيدا بشجاعته علامةَ القدرة على التحمل والاصطبار، وأن ما يحسه من ألم الجراحة وقسوتها يجعله غدا رؤوفا بالناس جميعا، حليما بالمريض والمصاب، لطيفَ المعاشرة مع القريب والغريب، سريعَ المساعدة لكل ضعيف ومحتاج، وقد كان يفعلها من قبل، ولكن بعد العملية يكون عطفه أكثرَ حنوا وحنانا، وأن تكون مبادرتُه أكثرَ سرعةً‮ ‬واستعجالا،‮ ‬ويتأكد‮ ‬عمليا‮ ‬من‮ ‬صحة‮ ‬قول‮ ‬الشاعر‮ ‬العربي‮:‬
  • الناسُ‮ ‬للناس‮ ‬من‮ ‬عُرْب‮ ‬ومن‮ ‬عجمٍ
  • ‮            ‬بعضٌ‮ ‬لبعض‮ ‬وإنْ‮ ‬لم‮ ‬يشعروا‮ ‬خدمُ‮.‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!