رحيل ابن سعيد: الموقف القوي والرجل الجريء
انتقل إلى رحمة الله الأخ والصديق المناضل الفذ أحمد لخضر بن سعيد من غير كلمة وداع، كما ينتقل عادة كبار المناضلين الشرفاء الأقوياء، تاركا خلفه ما سيُبقيه حيا في قلوبنا جميعا: حبّه لوطنه وخوفه عليه ونضاله المستميت من أجل أن لا يقع بين أيدي أعداء الأمس واليوم.
انتقل إلى رحمة الله الواسعة أحد أكبر المناهضين لحزب فرنسا، وأذنابه في الجزائر، من لم يكن يخشى ذكر رموز هذا الحزب حتى وهم في قمة هرم السلطة وبيدهم صناعة القرار، وإلى اليوم.. لم يكن يتردد في القول جهرا وبالفم الملآن: أن حزبهم هو الأقوى في الجزائر، وهو الذي خَطَف من الجزائريين استقلالهم، وهو مَن كان خلف كافة المآسي والأحزان التي عرفوها.. مِن وقَف المسار الانتخابي إلى إرهاب العشرية السوداء…
انتقل إلى رحمة الله الواسعة مَن نَقل معركته من جبهة الصراع السياسي إلى جبهة الصراع الفكري، عندما انبرى مدافعا عن الذاكرة الوطنية مع نخبة من الوطنيين الأحرار، باحثا عن كل رجل بإمكانه أن يعيد زرع الأمل في شعبٍ نَخر جسمه اليأس، متعلقا تارة برمزية محمد بوضياف الذي كان يزوره في المغرب عندما كان مغضوبا عليه، وأخرى بشخصية أحمد بن بلة التاريخية، وثالثة بمجاهدين أفذاذ كيوسف الخطيب وليامين زروال.
كان يعتقد جازما أن الثوريين الحقيقيين غمرتهم الأحداث أو هُمِّشوا من قبل أعداد كبيرة من المجاهدين المزيفين ومن الحَرْكى العملاء الذين لبسوا لباس الوطنية قُبيل الاستقلال، ولم يكن يتردد في تحميل المسؤولية للشعب الجزائري لفضح هؤلاء…
وكم كان يبكي ويثور عندما كان يرى مواطنين هُمشوا، أو ظُلموا، أو منعوا من أدنى الحقوق فما بالك بأرامل شهداء، أو أبناء شهداء…
لقد ضَمَّني إلى صدره والدموع تنهمر من عينيه ذات يوم عندما رآني في أحلك الظروف… وضمني مرة أخرى إلى صدره عندما أوصيته بوالدتي خيرا وقال لي: لقد فَعلها أبناء الحَرْكى، انتقاما، وتشفيا، وظلما… لا تَحزن سوف أُعلم بذلك الرئيس…
واغتيل الرئيس محمد بوضياف بعد أيام… وهو من أرسل أحمد بن سعيد لزيارة معتقلات الصحراء…
ومَنَّ الله علينا بالفرج… والتقيت مع ابن سعيد بحضور والدتي… وضمني إلى صدره كعادته متذكرا تلك اللحظات الأليمة…
ولم يزد على القول وهو يستمع إلى كل ما أقول، سوى إشارة برأسه وكلمة واحدة معروفة لديه يقولها بين شفتيه عندما يتفق معك في الرأي: أمْم، أمْم… سنواصل النضال.. المسيرة طويلة…
غمرك الله برحمته الواسعة وألهم أهلك وذويك الصبر والسلوان…