-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الجزء الأول

رسائل مالك بن نبي في كتاب “العفن”

محمد بوالروايح
  • 2144
  • 0
رسائل مالك بن نبي في كتاب “العفن”

كتاب “العفن” ليس مجرد كتاب، إنه محاكمة عقلية وواقعية لبعض الممارسات التي يراها مالك بن نبي هادمة لسلم الأولويات في المجتمع، ممارسات تقدم من حقه التأخير وتؤخر من حقه التقديم، ممارسات اختلقها النظام الاستعماري المتعفن الذي تسلط على المجتمع الجزائري وحال بينه وبين الأخذ بأسباب الحضارة بدعوى أنه مجتمع متبلد لا يفقه سنن التطوُّر، ولا يستحق أن يفكر بل لا يستحق أن يُذكر، إنه الميزان الاستعماري الذي تطيش فيه أعمال الكبار وتطفو فيه أعمال الصغار، يُحتفى فيه بالحرْكي الخائن ويُنتقم فيه من الوطني الثائر، يصنَّف فيه الخائنُ مواطنا صالحا ويصنف فيه الوطني إنسانا متمردا بحاجة إلى أن تؤدبه عصا الطاعة ليعود إلى الجادة.

ينظر كل قارئ إلى كتاب “العفن” بنظرته الخاصة، فمن القراء من يعدّه كتابا مرجعيا في النقد السياسي والاجتماعي من رجل محنك، سبر أغوار السياسة رغم كونه مفكرا بالدرجة الأولى، فالسياسة والفكر في نظر هؤلاء كل متكامل فلا غنى للسياسي عن المفكر ولا غنى للمفكر عن السياسي، وخاصة حينما يجد الاثنان أنفسهما في وضع استعماري لا يحسدان عليه، يحتم عليهما أن يتكاملا خوفا من مغبة التلاشي. ومن القراء من يعدّه كتابا أيديولوجيا، ينتصر فيه بن نبي لأيديولوجيته الفكرية ويقدم فيه صورة مثالية للمجتمع الذي ينشده ويتطلع إليه لكونه من حملة الفكر ومن مقتضيات الفكر أن يرفع صاحبه إلى أعلى ويرتفع به عن كل السفاسف التي تعيق العقل وتقتل في الإنسان كل عناصر القوة الإيجابية الخلاقة، ومن القراء من لا يعير لكتاب “العفن” اهتماما كبيرا، بل ينظر إليه على أنه مجرد “مذكرات”، وهذه الأخيرة يُؤخذ منها ويُردّ، وفيها من الحقيقة كما فيها من الخيال، وفيها من الخطأ كما فيها من الصواب.

لكل قارئ وجهةٌ هو مولّيها، ولكن من الضروري الاعتراف بأن مالك بن نبي ليس شخصية سياسية يمثل حزبا سياسيا معيَّنا فيجد نفسه مرغما للدفاع عنه ظالما أو مظلوما وتمجيد أفكاره حتى ولو كانت مخالفة للمنطق ومخالفة لسنن الطبيعة، فبن نبي ليس من هذا الصنف الذي يغمط الحق ويمنح الولاء لمن لا يستحق، إنه مفكر من طينة الكبار الذي لا يقبل ما يجافي الفكر أو يقتل في الإنسان غريزة التفكير من أجل الانتصار لفكرة حزبية تكون في الغالب أشبه بالشجرة الخبيثة التي اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

لقد مارس بن نبي السياسة ولكن بعقل المفكر وليس بعقل المناضل السياسي الذي يجبَر في بعض الأحيان على إلغاء عقله إرضاء لحزبه أو قد يصل به الأمر إلى معصية ربه إرضاء لحزبه. لقد تعاطى بن نبي السياسة ولكنه لم يتلوّث بموبقاتها التي سقط في حمأتها كثيرون، فبن نبي كان من رجال الفكر السياسي ولم يكن من رجال التهريج السياسي الذي يجادلون في المسلّمات ويقفزون على الحقيقة ولو كانت كفلق الصبح.

أربأ بأستاذنا أحمد بن نعمان أن ينزل في النقد إلى هذا المستوى فيشوش على أفكارنا في الوقت الذي ننتظر منه أن ينوّر عقولنا حول ما نجهله عن الجديد الذي جاء به كتاب “العفن” لمالك بم نبي. أربأ ببن نعمان أن يجاري بعض النقاد في استخدام بعض الأوصاف كوصف “البطنولوجي” في مقابل “الفكرولوجي”، فليس في هذه الخطاب من النقد المفيد ما يوقفنا على الجديد.

لقد وجَّه بن نبي في كتابه “العفن” رسائلَ كثيرة إلى الإصلاحيين والسياسيين، وهي رسائل قد نختلف في قراءتها ولكننا لا نختلف في أنها ليست من قبيل الترف الفكري، فالرجل يقدِّر لرِجله قبل الخطو موضعها ولا يرمي بالفكرة على غير هدى كما يفعل بعض أدعياء الفكر الذين لا يلقون لأفكارهم بالا حتى وإن أكلت الأخضر واليابس وأدخلت المجتمع في فتنة عارمة، تجرف الجميع وتضع المجتمع برمّته أمام حاضر كالح ومستقبل غير واضح الملامح.

لقد خصّصتُ هذا الجزء من المقال لبعض المقدمات الضرورية عن فحوى كتاب “العفن” كما يراه مقدّموه  من أجل تهيئة القارئ لفهم واستيعاب الرسائل القوية التي بعث بها مالك بن نبي إلى إخوانه ورفاقه على درب الإصلاح الديني والفكري وإلى خصومه السياسيين ممن ضاقوا بفكره وائتمروا به وألبوا عليه واتهموه بخدمة “الأصولية الدينية” القابعة -في نظرهم- في شرنقة الفكر الماضوي والهادمة لقيم التنوير الحضاري والتفكير الإنساني.

وعلى ذكر المقدمات التي لا بد منها قبل أن أدلف إلى رسائل بن نبي في كتابه “العفن”، وددت أن أنقل هنا تقديم الدكتور أحمد بن نعمان لهذا الكتاب إذ يقول: “.. إن هذا الكتاب كما يُستشف من عنوانه “العفن”، هو رصدٌ للأوضاع المتعفنة داخل الوطن، وواقع الأمة، رصد خبير متمرس، وفحص طبيب متخصص لمرض خبيث عبر مختلف الأدوار والأطوار، فدقق النظر في الجراثيم العالقة على جسم الأمة مجهريا، وفنّد أطروحات الخصوم في تبرير علوقها منطقيا، وكشف لعبة الرهان، بالحجة والبرهان، وبين الحق وطريقه ليعيده ذووه إلى نصابه، ويمزّقوا بالثورة الجهادية الكبرى ثوب الخيانة والعمالة على أجسام أصحابه، ويرجعوا سموم العدو وفضلاته” الذهنية”، وجراثيمه المعدية إلى أحشائه، ليصبح الوطن، بعد حين، وإلى حين، بين أيدي أبنائه”.

إن مشكلة أحمد بن نعمان كغيره من اللغويين هو اعتماده على الحشد اللفظي الذي يغطي الفكرة التي يرومها بركام من السّجع البديع فيُغرق ذهن القارئ في بدائع اللغة وصنائع البلاغة ويُصرفه عن جواهر الأفكار. ليس في هذا ما ينقص من قيمة أحمد بن نعمان لأنّ هذه هي صنعته، والصنعة كالسليقة والطبيعة لا يستطيع صاحبَها تغييرها ولو أراد. لم استفد من كلام بن نعمان ما يمكني من فهم مراد بن نبي من تأليفه لكتاب “العفن” لسبب ظاهر وهو أن ملكة اللسان عند بن نعمان قد طغت على ملكة العرفان.

يقول أحمد بن نعمان: “.. ولذلك فمن الجديد الذي يجده القارئ في هذا الكتاب الفريد من نوعه، هو ما أظهره لنا من مخططات العدو وكيفية ترتيب أولوياته في التخطيط والتنفيذ، بإعطائها دوما للفكري على السياسي، وللسياسي على العسكري، وهو عكس الوضع السائد في العديد من البلاد “الوارثة” لطريقة الاستعمار في إدارة الأمصار، فهي تعطي الأولوية للعسكري على السياسي، وللسياسي على الفكري والثقافي، وبتعبير آخر أولوية “البطنولوجي” على “الفكرولوجي” فينقلب بذلك وضع الهرم، لتصبح القاعدة في الأعلى والرأس مكان القدم، فتنعكس القيم في السيادة والإدارة والسياسة والحضارة”.

لقد انخرط بن نعمان وهو يُطلعنا على الجديد الذي أتى به كتاب “العفن” لبن نبي في لعبة أولوية العسكري على السياسي والسياسي على الفكري، وهي في نظري فكرة خاطئة وهي من صناعة الفكر العلماني الذي يغالي أصحابُه في تكريس مبدأ الفصل، فلم يكتفوا بالدعوة إلى فصل الدين عن الدولة بل انتقلوا إلى تقويض مفاصل الدولة وأوصال الأمة بابتداع هوة وهمية بين السياسي والعسكري والفكري، فهذا الفصل الذي ينسب الفضل لبعضهم وينفيه عن الآخرين هو من نتاج فكر إنسان ما بعد الموحدين كما يصفه مالك بن نبي، الذي يحرِّض السياسي على العسكري ويحرض العسكري على الفكري ويختلق صراعا وهميا لم نقرأ عنه في تاريخ الأمة العربية والإسلامية، فقد كان رواد الفكرة وقواد الفيالق وحملة البنادق في هذه العصور يكمل بعضهم بعضا، بل كان من قادة الفيالق وحملة البنادق من يحمل فكرا ثاقبا لا يرتقي إليه كثيرٌ من المفكرين. أربأ بأستاذنا أحمد بن نعمان أن ينزل في النقد إلى هذا المستوى فيشوش على أفكارنا في الوقت الذي ننتظر منه أن ينوّر عقولنا حول ما نجهله عن الجديد الذي جاء به كتاب “العفن” لمالك بم نبي. أربأ ببن نعمان أن يجاري بعض النقاد في استخدام بعض الأوصاف كوصف “البطنولوجي” في مقابل “الفكرولوجي”، فليس في هذه الخطاب من النقد المفيد ما يوقفنا على الجديد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!