-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رسالة إلى أحبابنا الأئمّة والخطباء

سلطان بركاني
  • 4833
  • 0
رسالة إلى أحبابنا الأئمّة والخطباء

روى ابن الجوزي- رحمه الله- في كتابه “الأذكياء” أنَّ رجلاً وَعظَ أميراً، فأنْفَذَ إليه الأميرُ مالاً، فَقَبِلَه، فلمَّا عادَ الرسولُ قالَ للأميرِ: “كلُّنا صيَّادٌ، ولكنَّ الشِبَاكَ تَخْتلف”.. هذا الواقع الذي تحدّث عنه رسول الأمير، وإن لم يكن عامًّا في حقّ كلّ داعية وكلّ واعظ وكلّ خطيب، لكنّه لم يكد يخلُو منه زمان، فكما وُجد من يرجو ما عند النّاس من مال ومدح وإعجاب بأدبه وشِعره، وُجد أيضا من يرجو ذلك بوعظه وتذكيره، ولعلّ هذا الصّنف من صائدي المدح والأعطيات هو أسوأ الأصناف، لأنّه يطلب الدّنيا بعمل الآخرة.

إنّه لا يليق أبدا بالعالم أو الداعية أو الخطيب أن يطلب عند الناس ما يطلبه المغنّي والفنان واللاعب عند جمهوره، وينتظر رأي من يجلسون بين يديه ويتابعون قوله ويستجدي إعجابهم بعد كلّ درس أو خطبة أو كلمة؛ فهذا شين ومنقصة، وخلل يمحق أجر الخطيب ويُذهب بركةَ كلامه، ويحول بين المستمعين والمتابعين وبين الاستفادةِ منه، وقديما قيل: “إنّ الذّكر إذا خرج من القلب تسلّل إلى القلوب وإذا خرج من اللّسان لم يتجاوز الآذان”، وعندما سئل الإمام أحمد رحمه الله: ما للنّاس إذا وعظتَهم بكوا وإذا وعظهم غيرك لم يبكوا؟ قال: “ليست النائحة الثكلى مثلَ النائحة المستأجرة”.

هناك أئمّة وخطباء ودعاة كثر ولله الحمد، يستشفّ المتابع لهم الإخلاص في أقوالهم وأحوالهم، ويشعر بأنّ كلماتهم سهام تنفذ إلى القلوب من دون استئذان، وتفعل فعلها في الجوانح والوجدان، ولكن هناك في المقابل بعض الأئمّة والدّعاة والخطباء في هذا الزّمان الذي تعدّدت فيه وسائل الإبلاغ والإشهار، يلحظ المتابع لأقوالهم وأحوالهم أنّ لديهم حرصا واضحا على أن تكون كلماتهم ومواعظهم محلّ إعجاب لأكبر عدد ممكن من النّاس؛ فترى الواحد منهم يفرح لكثرة من يحضر خطبه ودروسه ويزداد اجتهادا بزيادة عددهم، لكنّه سرعان ما يعتريه الفتور والملل إن رأى قلّة عددهم وضعف اهتمامهم.. ينتظر بعد كلّ خطبة أو درس جموع المهنّئين والمادحين والشّاكرين والمثنين على ما قدّم، فينتشي ويفرح بكثرتهم ويغتمّ لقلّتهم، ويصبح همّه الأكبر هو البحث عمّا يلقى إعجاب المصلّين ويجلب انتباههم لا ما ينفعهم ويدعوهم إلى إصلاح حالهم. وهكذا بعض الدّعاة الذين يبدون اهتماما واضحا بالإعجابات التي تحظى بها كلماتهم التي يذيعون ويكتبون على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ويتباهون بكثرتها ويبدون رغبته جامحة في زيادتها!

علاوة على هذا، ربّما تجد الخطيب أو الدّاعية يبالغ في الاهتمام بمظهره بما يخرجه عن حدّ التواضع، لِظنّه أنّ ذلك سيزيد من هيبته في قلوب النّاس ويزيد إعجابهم به وتقديرهم له، وربّما يصنع بينه وبين عامّة النّاس فجوة بإغراقه في الاهتمام بحظوظه الدنيوية ومخالطته للمسؤولين والأثرياء وعلية القوم، وابتعاده عن الفقراء والعامّة، وربّما يزيد الطّين بلّة حين يحدّث عامّة النّاس عن الصّبر على الفقر وقلّة ذات اليد في الوقت الذي تُسلّط فيه عليهم المظالم وتهضم حقوقهم، وفي الوقت الذي يتمادى فيه علية القوم في نهب الأموال العامّة وفي الاستئثار بالمغانم وتوزيع المغارم.. فيجد عامّةُ النّاس داعيتهم أو إمامهم يدعوهم إلى الصّبر والزّهد والرّضا بالقليل، ولا ينبس ببنت شفة عن حقوقهم المسلوبة.. وفي هذا الصّدد يُروى أنّ أحد الأئمّة اعتلى المنبر يوما وأخذ يتحدث عن الصبر  على الفقر وقلّة ذات اليد، فقاطعه عامل نظافة وقال: “يا سيّدي، أنت حضرت إلى المسجد بسيارة فارهة وملابس مزخرفه وعطر يفوح ملء المسجد.. يا سيّدي رافقني يوما واحدا في عملي.. أريدك أن تصحو معي قبل الفجر وتمسك المكنسة وتنظّف الشارع في هذا البرد، لتعلم معنى الصبر. فأنا أقوم بهذا العمل كلّ يوم لأستلم نهاية الشهر مبلغا زهيدا لا يساوي قيمة زجاجة عطر من العطور التي تشتريها.. عذرا سيّدي، لسنا في حاجة إلى أن تعلّمنا الصّبر فهو رفيق دربنا.. حدّثْنا عن صلف الحكّام وظُلم السّادة ورياء العلماء، وإلا فلا حاجة لنا بك”.

لأجل هذا ينبغي لإخواننا وأحبابنا الأئمّة والخطباء أن يكونوا أحرص ما يكونون على إخلاص نياتهم، وعلى مراجعتها وصقلها ممّا يشوبها من حين إلى آخر، وأن يفرّوا من المدح ومن سماعه ما أمكنهم، وينهروا من يثني عليهم ويوجّهوه إلى الدّعاء لهم في ظهر الغيب بالإخلاص والسّداد، ويوطّنوا أنفسهم على قول: “اللهمّ أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم. اللهمّ اجعلني خيراً مما يظنّون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون”.. كما عليهم أن يحرصوا على العمل بما يقولون وعلى أن يكونوا في خلواتهم خيرا منهم في جلواتهم، وعلى أن تكون بواطنهم خيرا من ظواهرهم، ونياتهم خيرا من كلماتهم، وعلى التّواضع في المظاهر والأحوال، ومخالطة عموم النّاس والبعد عن خلطة خواصّهم من المسؤولين والأثرياء والوجهاء. ليس حراما على الإمام أن يناضل لأجل حقوقه المادية مع الجهات المسؤولة، وليس ملوما في إظهار نعمة الله عليه، لكن بما لا يخرجه عن حدّ الاعتدال ويبعده عن قلوب خيرة عباد الله من الفقراء والأخفياء.

 

هذه كلمات كتبتها إلى إخواني الأئمّة والخطباء خاصّة، وأنا واحد منهم، لا أتشبّع بما لم أعطَ ولا أدّعي لنفسي أنّها خالية من الشّوائب، وإنّما هي ذكرى أرجو الله أن ينفعني بها وسائر إخواني، ويُصلح نياتنا وأعمالنا وأحوالنا، ويلهمنا الرّشد والسّداد، ويطهّر قلوبنا ونفوسنا من التعلّق بما عند النّاس.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!