-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رفقا بأمِّ الحواضر قسنطينة

رفقا بأمِّ الحواضر قسنطينة

قسنطينة “أم الحواضر”، هكذا سمِّيت لأنها كانت مركزا للإشعاع الحضاري والثقافي فهي مدينة تضاهي في تمدنها المدن العالمية الكبرى، وتعاقبت عليها الحضارات وامتزج في أديمها تراث الأولين والآخرين، وهي المدينة التي تسحرك وتدهشك لأول وهلة، ووجد الشعراء أنفسهم مشدودين إليها لأنها نبع الشاعرية، واستعصت على الغزاة وصمدت أمام البغاة وظل أريجُها فواحا يملأ الفضاء ويمتد إلى جميع الأرجاء، وهي المدينة التي لا تذكَر إلا مقترنة بالعلم وموشحة بجمال الماضي وجلال الحاضر.
هذه هي قسنطينة “أم الحواضر” كما هي في ذاكرتنا الجماعية ومذكراتنا التاريخية والثقافية، وتحدَّث عنها القاضي والعالم الموسوعي “ابن قنفذ القسنطيني” وكتب عنها “المولود بن الموهوب”، وشهدت ميلاد خير جمعية أخرجت للناس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، وكان الكتاب السلعة الغالبة عليها، فحيثما تجولت في قسنطينة شدك منظر الكتب النفيسة التي تزين رفوف المكتبات ومنظر المتعطشين للثقافة الذين يأتون من كل حدب وصوب، يسألون عن الجديد في عالم الكتب.
هذه هي قسنطينة التي تأسرك بجمالها فلا تبرحها إلا ممنِّيا النفس بالعودة إليها، وفيها يلتقي عمق التاريخ مع عبق الهوى، وهي التي أنجبت الكبار وصناع الأفكار، وكانت وإلى وقت قريب نبعا للهوى ومصدرا للإلهام وملتقى للأدباء من كل الأمصار، تختزن في أديمها حضارة الإسلام وحضارة الرومان وحضارة آل عثمان، وتطرب لها النفس وهي تطوف بأرجائها في جنان الزيتون وسيدي مسيد وسيدي جليس و الجابية والسويقة ورحبة الصوف…
لا نرضى لقسنطينة التاريخ أن تتنكر لماضيها، وتغرق في الفوضى، وتستبدل محلات الكباب بدور الكتاب، لا نرضى لقسنطينة ماسينيسا ويوغرطة أن تتحول إلى قلعة منسية، تُهجر فيها الثقافة وتسود فيها تعاليم باريس على تعاليم ابن باديس، وتنتشر فيها القيم الدخيلة وتنتفي فيها القيم الأصيلة، يُعبد فيها كل وثن ويهجر فيها الوطن، ويشوهها منظر الباعة الفوضويين الذين استولوا على الطريق بعد الرصيف، ومنظر السيارات المركونة في كل مكان ومنظر المأكولات المعروضة على قارعة الطريق والتي لا تراعى فيها أدنى شروط النظافة، ومنظر المطاعم التي يؤذي دخانها الساكنة من فوقها والمارين من حولها ومنظر المتفحشين الذين لا يعطون الطريق حقه ويطلقون العنان لألسنتهم ويسطون بمن ينكر عليهم، ومنظر الباعة الفوضويين الذين يسدُّون مداخل المحلات والمتاجر وأبواب المساجد ثم يرفعون عقيرتهم بأنهم ضحايا سياسة التهميش ومن حقهم أن يستردُّوا بعض ما أخِذ منهم!.
لا نرضى لأم الحواضر قسنطينة أن تتحول ساحاتها وميادينها إلى وكر للمنحرفين الذين لا يردّهم دينٌ ولا يردعهم قانون، يجاهرون بتمردهم على قيم المجتمع وينقلون هذه السموم لأبنائنا وبناتنا، ويشتد فيها بأس المستهترين بسلطة القانون والعابثين بقيم الأمة وهيبة الدولة، ويهين فيها بعض الأشقياء من يسهرون على أمنهم ثم يعتبرون هذا حرية تعبير. لا نرضى لأم الحواضر قسنطينة أن تنتشر فيها الكلاب الضالة التي تهدد سلامة المارة بالليل والنهار، وتنتشر فيها تربية الكلاب لغير منفعة ولا حاجة ملحة كما حددت ذلك أحكام الشريعة الإسلامية بل وتصبح هذه موضة وسنة حسنة عند بعضهم يباهون بها الناس، وأن تنحط سلوكات بعض ساكنتها فيرمون أكياس القمامة من شرفات منازلهم أو من نوافذ سياراتهم أو يركمونها عند مداخل العمارات عند جنح الظلام، وأن يجعل بعض شبابها من عربات الترامواي مكانا للرفث والعبث، يرفعون أصواتهم من غير استحياء ويمزقون كل ما تقع عليه أعينهم وما يقع بأيديهم غير آبهين بالأعين التي تنظر إليهم، فليت هؤلاء يعلمون أن الحياء شعبة من شعب الإيمان وأن من حرم الحياء فقد حرم الإيمان.
لا نرضى لأم الحواضر قسنطينة أن تتحول شوارعها الكبرى إلى منظر فسيفسائي لا يسر الناظرين، وأن تتحول فيها الميادين التي احتضنت بالأمس رواد الكتاتيب إلى ميادين لبيع الكتاكيت وتوضع فيه ثلاجة المشروبات أمام محل الملبوسات، ويتحول فيه محيط بعض مساجدنا إلى مطعم على الهواء الطلق، وتعمد الأيادي العابثة لإتلاف الفضاءات العامة التي أنفقت عليها الملايير من غير إحساس بالذنب أو تأنيب ضمير. لا نرضى لأم الحواضر قسنطينة أن يظل مصعد سيدي مسيد معطلا وقد التهم من مال الخزينة ما تنوء به العصبة أولي القوة، وأن يظل درب السياح وكهف الدببة و”جسر الشيطان” والحمامات الرومانية معالم مهجورة لو أنها رمِّمت واستُغِلت لأدرت على خزينة الدولة أموالا طائلة.
لا نرضى لأم الحواضر قسنطينة أن تظل بعض جامعاتها فضاء مستباحا يصول فيه الغرباء ويجولون وهو في العرف القانوني “حرم جامعي” بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وأن تتحول حديقة بن ناصر من مكان للتفسح إلى مكان للتسوق، وأن تظل أغلب الموزعات الآلية البريدية والبنكية موصدة أو من غير رصيد يقصدها المواطنون لسحب أموالهم فلا يلوون على شيء.
لا نرضى لأم الحواضر قسنطينة أن تظل معالمها التاريخية مهملة، تصفّر فيها الريح ثم يخرج علينا من يحدّثنا عن الأهمية التاريخية لهذه المعالم، فأي مفارقة هذه التي نقف فيها على كلام منمّق وسلوك مخالف؟. لا نرضى لأم الحواضر قسنطينة أن يظل (شارع فرنسا) على هذه الهيئة الذي تنتشر فيه الحفر كالفطر كلما أخطأتك واحدة وقعت في الثانية، وأن يبقى قصر الثقافة محمد العيد آل خليفة مكانا للنشاطات الموسمية لا يشتغل بكل طاقته ولا يستغل كل زخمه، وأن تظل مساجده العتيقة موصدة، ينعق فيها البوم ويحرم منها المصلون، وأن تظل محطة المسافرين الغربية مغلقة وقد ضاقت قسنطينة بساكنيها وزوارها من الداخل والخارج، وأن تظل البالوعات مصدرا للخطر كلما هطلت زخات من المطر، وأن يُعتدى فيها على الملكية العمومية فيقوم بعض أصحاب المحلات بتسييج ما ليس لهم وضمّه إلى محلاتهم مما يعدّ اعتداءً صريحا مكتمل الأركان على الملكية العمومية يعاقب عليه القانون، وأن يكثر فيها محترفو التسول الذين يسيئون بهذا التصرف إلى أنفسهم ووطنهم، وكأنهم لا يعملون أن “اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى”.
لا نرضى لأم الحواضر قسنطينة أن يظل النشاط الفكري فيها محدودا لا يستوعب الزخم الثقافي لهذه المدينة، وأن تظل قاعات السينما مغلقة وهي التي أسهمت لعقود في بناء الحس الفني الوطني الأصيل بما يعرض فيها من أفلام تعرف بتاريخ الثورة ومكاسب الأجيال غبر مختلف المراحل، وأن تظل السياحة التاريخية فيها معطلة رغم توفرها على معالم سياحية من الطراز العالمي بشهادة الآخرين ورغم الميزانية التي ترصدها الدولة للنهوض بقطاع السياحة، فأين الخلل إذن؟ هل هو في انعدام الموارد أم في انعدام الإرادة؟.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!