-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

روح العلمانية!!

التهامي مجوري
  • 1129
  • 2
روح العلمانية!!

يسوق للعلمانية على أنها تمثل العلم أو العالمية، بمعنى أنها هي الحقيقة التي ينبغي أن يسلم بها الإنسان باعتبارها علما، أو هي التي أطبق العالم على السعي إليها وقبول نتائجها، بوصفها الغاية التي يسعى إليها الإنسان دائما.

وسواء بوصف العلمانية علما أو عالمية مقبولة لدى الانسانية جمعاء؛ لأنها من النتائج التي أقرها العلم من حيث هو علم، أو بوصفها قيما عالمية، قبل بها الإنسان، وفق المعايير التي اخذت الطابع الدولي، بحسب التسويق الذي خفت صوته اليوم، فإن العلماية اليوم محل نقد وتمحيص، بعودنها إلى المربع الأول، وهو مناقشة التسليم بالقواعد التي بنيت عليها، وسواء في شكل نقد للحداثة، أو نقد لما بعد الحداثة، أو بمناقشة بعض الأمور في العلوم الإنسانية التي تعتمد بكلها على المنظور العلماني لقضايا الإنسان.

لا شك أن هناك من يعتقد إلى اليوم، أن الإنسانية لن ترضى من حيث هي إنسانية، بغير العلمانية منهجا في قضاياها، مهما اختلفت نوازعها وميولاتها وخصوصياتها الإجتماعية .الثقافية والدينية علما؛ لأنها الجامع الذي ذابت فيه الخلافات.

ولكن هناك أيضا فئات عريضة من مثقفي العالم يسلطون الضوء –اليوم- على الكثير من الإخفاقات في الفكر الإنساني الذي تحكمه العلمانية، منذ نشأتها قبل خمسة قرون، وهو المنعرج الذي تحولت فيه مراكز القوة إلى الغرب وإلى العالم الجديد، وعلى رأس هؤلاء صاحب كتاب “الحداثة السائلة”، الذي يبشر بحداثة يكون فيها التغير والتغيير هو الثابت الوحديد في هذه الحياة، وما عدا ذلك كل شيء قابل للتغير.

ولكن ما يبدو من مناقشة مبادئ العلمانية وغاياتها في طروحاته، أنها لم تخرج من أعراض الأزمة، أي تناقش أزمات الإنسان التي يعيشها، ويناقشونها كأنها هي العلمانية، رغم أن ذلك من نتائج العلمانية؛ لأن المنظورات الفكرية عموما ومنها منظور العلمانية، تنطلق من رؤى كونية، أي كيف تنظر هذه المنظورات إلى هذا الكون وعلاقة الإنسان به، ومن ثم لم يستطيعوا الكشف عن حقيقة الأزمة ومنعرادتها الكبرى، باستثناء القليل من الدارسين للعمانية بعمق ومنهم الدكتور عبد الوهاب المسيري، والدكتور وائل حلاق، والدكتور طه عبد الرحمان الذين تعمقوا في دراسة العلمانية وأصولها الحداثية، فسجلوا منها موقفهم النهائي المعبر على لا إنسانية الحداثة والعلمانية، حتى أن وائل حلاق الفلسطيني النصراني قال: “أفضل أن أكون ذميا في دولة العباسيين على أن أكون مواطنا في إسرائيل”؛ لأن دولة العباسيين لها أخلاق، بين دولة إسرائيل لا أخلاق لها كغيرها من الدولة الغربية عامة.

إن العلمانية في الواقع مذهب إنساني، اقتنع به بعض الناس ورفضه غيرهم، وتردد في قبوله آخرون، وهو مصطلح متناغم مع مقتضيات الحداثة، التي ترفض كل قديم.

والعلمانية بذلك، ليست في كل ما تطرحه مبني على حقائق علمية، حتى تسلم بها الإنسانية، كما أن طروحاتها ليست مقبولة في كل العالم، حتى توصف بالعالمية، وإنما هي فهوم مبنية على فرضيات قد تصدق في معالجة قضايا الإنسان، وقد لا تصدق في ذلك؛ لأن الهم الأكبر للحداثة، منصب على عملية “التحديث” في كل شيء؛ لأن الحداثة قررت أن كل قديم لا فضل فيه ابتداء، ومن ثم لا يمكن أن نصف الأمر الحديث أو الجديد بالصلاح أو الفساد، أو حتى بالقبول الجزئي، أي بقدر ما يقدم من صلاحية وشرعية للإنسان…، وبعبارة أخرى، كل قديم فيه الصالح والطالح، وكل جديد فيه الصالح والطالح، وهنا تسقط العلمانية بسقوط الحداثة، لما بينهما من ارتباط عضوي، أو قل إن شئت الحداثة هي روح العلمانية.

تظهر هذه العلاقة العضوية بين الحداثة والعلمانية، كعلاقة الروح بالجسد، في الموقف من أربع قضايا أساسية وهي:

  • الموقف من الغيب
  • الموقف من الدين
  • الموقف من المادة
  • الموقف من الإختلاف البشري
  • الموقف من الصراع

فالموقف من الغيب في العلمانية وفي الحداثة على حد سوا، هو النفي المطلق له وللإعتراف به، إذ لا وجود لغيب له علاقة بحياة الإنسان، وما وجد في ذهن الإنسان من مخلفات عهد الأساطير لا قيمة له في الواقع، وما يذكر من غيب في ثقافة المجتمعات هو من بقايا الأساطير والسلطان الديني الذي هيمن على الإنسان لقرون طويلة، بسبب الضعف والحاجة التي أجبرت الإنسان على التعلق بشيء يعتقد فيه القوة والكمال، فيلجأ إليه للإستقواء به، كما أن الأساطير في حد ذاتها بقطع النظر عن القوة والضعف، تعد في القديم من المصادر التي يعتمدها الإنسان في فهمه للوجود، أما وقد بلغ التطور العلمي مداه في فهم الماضي والواقع والمستقبل، فلم يعد من المجدي اعتبار الغيب من الأمور الضرورية في حياة الإنسان، التي يحتاج إليها في مسيرته، لا سيما وأن العلوم الإنسانية نفسها التي تعد أقل تطورا من العلوم الفيزيائية، قد تمكنت من استشراف المصير الإنساني لعشرات السنين المقبلة.

أما الموقف من الدين فمثل الموقف من الغيب؛ لأن الدين في جوهره إيمان بالله واليوم الآخر وكلاهما غيب، وذلك من الغيب الذي لا تعترف به العلمانية أو الحداثة، وإنما باعتبار أن الدين قضية شخصية فيبقى كذلك، ولا علاقة له بحياة الجماعة. للإنسان أن يعبد كما يشاء، ويلتزم بأي دين شاء، لكونه ذلك مسألة شخصية، ولكن لا علاقة للدبن بحياة الجماعة، فليس للمجتمع الحق في المرججعية الدينية؛ لأن الدين مسألة شخصية بمعنى هو قيمة متعلقة بالفرد وليس بالجماعة، ومن ناحية أخرى هو من الغيب الذي لا تؤمن به العلمانية والحداثة، ثم إن الغيب لا يمكن اعتباره في مجال من مجالات الحياة؛ لأنه غير قابل للقياس، ومصالح المجتمع الإنساني كلها مبنية على ما يقبل القياس، فعلى أي أساس تبنى مقاييس الأشياء، كالتقدم والتخلف والنمو والمستوى العلمي…إلخ، إن لم تكن المكاسب المادية الملموسة والرفاه.

وأما الموقف من المادة وهي الأصل في الحياة عند العلمانيين، فلكونها تحقق للإنسان مكاسب يشعر بها ويلمسها ويستحسنها في حياته، وهي كل ما ينبغي الاهتمام به في الحياة؛ لأن العيش مادة والسياسة مادة وحقوق الإنسان مادة… بل إن الغنى والفقر مادة والتقدم والتأخر مادة.

والموقف من الإختلاف البشري، فالخطاب العلماني له وجهان، وجه يمجد الاختلاف ويحافظ عليه، ووجه يمايز به بين الألوان والثقافات والحضارات، ومن ثم فهناك هوة بين المنظور والممارسة، ولعل ذلك من أكبر سوءات العلمانية، في كونها تنادي بردم الفوارق كلها بين البشر، ولكنها عمليا تمايز بين الشعوب والثقافات والحضارات. فالمركزية الغربية تضرب سياجا على نفسها حتى لا تتسلل قيم خطابها هذا إلى المجتمعات الأخرى؛ لأنها ترى في غيرها من الشعوب، من الصنف الذي يقاد ولا يقود، وإلى اليوم لا يزال المواطن الأبيص يختلف عن المواطن الأسود في كثير من البقاع الغربية؟

وأخيرا الموقف من الصراع، فالعلمانية تؤمن بأن الصراع هو الأصل في الوجود، فصراع الإنسان مع الطبيعة، فإما أنه يتحكم فيها أو أنها تصرعه، وصراع بين القوي والضعيف، وبين المنتج والعاجز، والغني والفقير، والهادي إلى هذه النظرة هو الداروينية ومبدأ الانتخاب الطبيعي، بحيث يجب على الإنسانية طبقا لذلك الاصطفاء، أن تتخلص من كل ما يعوقها ويعطلها على التقدم والنتمو… فأفران الغاز التي وظفت في “مسألة محرقة لليهود في ألمانيا”، في الواقع هي مقررة في أصول الحداثة والعلمانية، لأن أفران الغاز كانت من إنتاجهما، بغرض التخلص من المسنين والعجزة والمعوقين؛ لأنهم يشكلون عائقا في نمو المجتمع وبكلفون الدولة. وتطبيقات الموقف العلماني من الصراع بادية بوضوح في الكثير من العلاقات الثقافية والساسية بين الغرب وغيره من شعوب العالم، من ذلك المد الإستعماري الامبراطوري، والتقديرات التنموية التي يمن بها الغرب على غيره، وفي مواقفه السلبية من الشعوب الرافضة له، سواء في المجالات الثقافية أو الدينية، ولعل من اعراض ذلك الإسلاموفوبيا، والجدل الصيني الأمريكي، الذي طفى على سطح الأحداث منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.

وحصيلة المنطور العلماني هي تشييء كل شيء…، المادية هي الأساس، وغيرها تابع لها، فالإنسان هو الإنسان وهو محور الوجود كله، ولكن ربما يتحول هذا الكائن الذي هو محور الوجود إلى شيء من أشيائه، وعندما نقول إن الإنسان معرض لأن يكون شيئا من أشياء هذا الكون ونستغني عنه بسهولة، فمعنى ذلك أن هذه العلمانية لا تحمل في طياتها إلا الإستغناء عن الفضيلة، كليا أو جزئيا، وهو ناقوس الخطر الذي يقرع آذان الشعوب منذ عقود من الزمان، ويزداد ضغطا عليها يوما بعد يوم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • Gamil

    أولا : حين نقارن بين الدول العلمانية والدول الدينية أو الشبه دينية ... يتبين الخيط الأبيض من الأسود وثانيا : كل الهجرات ومهما تكون أسبابها وأشكالها وأنواعها .. : لغرض مواصلة الدراسة ولغرض اللجوء السياسي ولغرض العمل ولغرض الهروب من المجاعة والاستبداد والارهاب .... كلها هجرات من الدول الدينية أو الشبه دينية نحو الدول العلمانية . لماذا ؟؟

  • حسن

    مقال رائع وعميق بارك الله فيك ولا فض فوك