-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

زكاة العلم ما زالت بخير

زكاة العلم ما زالت بخير

اختتم مخيم الرياضيات الثالث بالمدرسة العليا للأساتذة- القبة يوم الخميس الماضي، وهو الورشة التي نظمت لفائدة الطلبة المتميزين في الرياضيات عبر القطر، ودامت نصف شهر بمعدل سبع ساعات عمل يوميا. فقد نهل المشاركون من معين هذا العلم الواسع الذي دخل كل ميادين المعرفة.

قم للمعلم…

سُرّ المنظمون بما تمخض عن إقامة مثل هذه التظاهرات العلمية لِما لاحظوه من انضباط وحسن خلق وقوة إرادة في طلب العلم لدى هؤلاء المتميّزين. وكانت كل هذه الأوصاف بادية للعيان ولا تحتاج إلى بيان. فمثلا، عندما تنتهي النشاطات في منتصف النهار أو مساء عند موعد العشاء، فإن الكثير من الطلبة يواصلون السؤال والجواب والنقاش ويتأخرون في مكان الدراسة حتى عن مواعيد الطعام. 

والورشة لم تكن منحصرة في الدروس والمحاضرات والتدريبات التي يقدمها الأساتذة الجزائريون المتطوّعون بل غطّى جزءا كبيرا من نشاط التظاهرة الطلبةُ أنفسهم من خلال عرض مواضيع في الرياضيات كُلِّفوا بإعدادها قبل بداية الورشة. وفي تلك العروض تدريب كبير للطلبة على البحث والإلقاء والتعمق في المادة والنقاش في مختلف المواضيع المطروحة خلال الورشة.

أما الأساتذة الذين أطّروا المخيم فهم يؤمنون إيمانا قويا بأهمية “زكاة العلم”: إذا لم يكونوا أمام الطلبة يلقون محاضراتهم ويناقشون ويسألون ويجيبون وينشطون، فإنهم في المكاتب المجاورة يعدّون دروسهم ويتناقشون فيما بينهم حول أحسن السبل لتبليغ رسالتهم العلمية. ذلك أن الورشة ضمت طلبة لهم مستويات دراسية متفاوتة، فمنهم من هو في السنة الأولى بالجامعة ومنهم من أنهى مرحلة الليسانس، إلخ. وكان ذلك سببا لتوزيعهم أحيانا إلى فئتين تعملان بالتوازي في قسمين متجاورين، يتكفل بكل منهما أستاذ من مجموعة المؤطرين. كما كان يحضر على الدوام بعض الأساتذة الآخرين- قدموا من جامعة باب الزوار ومن خارج البلاد- أعمال الورشة، وهو ما أثرى نشاط التظاهرة وزاد في نجاحها. 

من المهم أن نشير إلى أن المؤطرين لم يأتوا من مدينة واحدة ولا من بلد واحد، علما أن كلا منهم تكفل بنفقات تنقله جوا وبرا، بما فيها تلك التنقلات خلال انعقاد الورشة من مكان الإقامة إلى المدرسة. ونظرا إلى نقص التمويلات فلم يتمكن المنظمون من توفير مسكن يناسب مقام الأساتذة فعرضوا عليهم الإقامة في الحي الجامعي إلى جانب الطلبة. وكانوا يتناولون وجبة منتصف النهار التي تكرمت بها وزارة التعليم العالي على جميع المشاركين في المطعم الجامعي.

وهكذا، فالأساتذة المؤطرون لم يكتفوا بأداء “زكاة العلم” وبالعمل الدؤوب خلال عطلهم في سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل بل ذهبوا أبعد من ذلك وعرضوا على المنظمين خدمات مادية لصالح الطلبة كوجبة فطور الصباح وبعض الوجبات الأخرى المسائية التي لم تتمكن مصالح وزارة التعليم العالي من توفيرها. ولذلك يستحق هؤلاء المعلمون كل الثناء والشكر على زكواتهم متعددة الأشكال، فلهم منا جميعا ألف تحية. ولعل أحمد شوقي كان يقصدهم ويقصد أمثالهم حين أمرَنا في قصيدته بقوله “قمْ للمعلم، وفّه التبجيلا…”! 

تجاهل تكوين نخبة

وإذ نشير إلى هذه التفاصيل فلكي يتبيّن للقارئ من خلال هذه العيّنة من الرجال أنه رغم ما يعدّده المواطن من مآس يومية يعيشها مجتمعنا، ورغم ما تتداوله وسائل الإعلام من سوء الأخبار، فهناك فئة من مثقفينا وأساتذتنا المنتشرين في الداخل والخارج ما زال يحدوهم الأمل الكبير في رفعة البلاد في مجال التكوين وطلب العلم والاهتمام بالنخبة. فبهذه العينة من العمل الميداني يثبتون أن التقدم في هذا الحقل مازال في متناول الزملاء، ويكفي أن تصدق النيات وتتضافر الجهود ويتوفر بعض التمويل. والواقع أن الرياضيات ليست أفضل من الفروع العلمية الأخرى إذ يمكن أن تتعدد مثل هذه الورشات لتشمل الكثير من الاختصاصات متكيّفةً مع واقع الحال. 

لا يخفى على أحد أن مجال التربية والتعليم عندنا في أمس الحاجة إلى مثل هذه المبادرات بسبب معاناته الثقيلة من مستواه المتدني يوما بعد يوم. وفي هذا السياق، يتساءل الكثير عن أسباب هذا الوضع المتردي وعن كيفية معالجته. وبطبيعة الحال فالكل يدلو بدلوه وينظّر في هذا الموضوع الشائك ويشير إلى الحلول التي يستخلصها. لكن صاحب القرار ورجل الميدان غالبا ما يرى الحلول بمنظار آخر. 

ومهما كانت الرؤى فلا نعتقد أن الكثير يختلف حول نقطتين هما:

أولا: لم تُولِ السلطات التكوين المهني والتقني الأهمية التي يستحقها، وفضلت الرمي بغالبية التلاميذ في التعليم العام رغم أنها تعلم بأن الكثير ممن اتخذ هذه السبيل سوف لن يلبي طموحاته. وقد أدى ذلك إلى امتلاء الجامعات بكمّ من الطلبة بيّن أن الجامعة ليست أفضل مكان لمستقبل هؤلاء الشباب ومستقبل المجتمع. 

ثانيا: أدى هذا التوجه بالسلطات إلى تجاهل تكوين نخبة في جميع الاختصاصات تعتمد عليها مؤسسات البلاد مستقبلا. 

ألم يلاحظ ساستنا أن العديد من الدول المتقدمة قد رسمت حلولا مناسبة لهذه المعضلة وذلك بربط مختلف القطاعات بالجامعات والمؤسسات التعليمية المختلفة حتى يستوعب سوق الشغل في تلك القطاعات جل طالبي العمل من خريجي مؤسسات التكوين؟ أما المتميزون فتُخصص لهم تلك البلدان مناهج دراسية راقية ومعاهد تتولى تكوينهم منذ السنوات الأولى حتى نهاية الدراسة ويلقون عناية خاصة من قبل الساسة. 

في انتظار إعادة تقييم أداء المؤسسة التعليمية بصفة عامة ومسار الجامعة بصفة خاصة لا يسع المُزَكّين بعلمهم إلا أن يواصلوا اتخاذ المبادرات من أجل بعث نخبة علمية حقيقية تشرّف البلاد وتعمل على سؤددها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!