-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

زكاة الفطر.. الخلافُ العابر للقرون

محمد بوالروايح
  • 1789
  • 0
زكاة الفطر.. الخلافُ العابر للقرون

يعود في كل سنة فقهاء الآية والآيتين والحديث والحديثين إلى إثارة خلاف عابر للقرون حول طريقة إخراج الزكاة طعاما أم نقدا. ويحتدم التراشق بالنصوص بين القائلين بإخراجها طعاما حصرا عملا بالسنة وبين القائلين بجواز ذلك نقدا لأن حاجة الفقير في هذا العصر إلى المال -في نظرهم- أولى من حاجته إلى الطعام.

رغم أن المسألة خلافية كما قرأنا ذلك في كتب الأحكام، إلا أن هناك فريقا من المتفيهقين لا يعير اهتماما لهذا الأمر ويحمل المسألة على الإلزام، وأعني هنا الحنابلة الجدد الذين تقنَّعوا بقناع المذهب الحنبلي ولا يرون الحق إلا في جانبهم، يدور معهم حيث داروا بدلا من أن يدوروا مع الحق حيث دار.

إن في المسائل الخلافية مقاصدَ شرعية لا يدركها بعض المتفيهقين، ومن هذه المقاصد أن يجد المسلمون سِعة في الدين عملا بقوله تعالى: “هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج” (الحج 78). لمحمد الطاهر بن عاشور في “التحرير والتنوير” توضيح لهذا المقصد إذ يقول في تفسيره لقوله تعالى: “هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج”: “..وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله دينا لا حرج فيه لأن ذلك يسهِّل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله”.

هناك خلافٌ بين الفقهاء حول طريقة إخراج زكاة الفطر، وهذه حقيقة لا ينكرها إلا من يزعمون أنهم قد أوتوا علما بكل المسائل وأنه إليهم يُردُّ علم الأحكام لا ينازعهم في ذلك أحد. إن المسائل الخلافية يستحيل أن يجتمع فيها العلماء على قول واحد وهذا ما ذكره الشيخ ابن باز رحمه الله إذ يقول: “أما جمعُ العلماء في أقطار الدنيا على قول واحد في مسائل الخلاف التي اختلف فيها العلماء الأولون فهذا ليس بممكن، وهو من المُستحيلات؛ لأًن كل واحدٍ له رأيه، وله اجتهاده، وله ما يفضله من إتّباع بعض الأئمة، ويقدم بعضهم على بعضٍ، هذا ليس بممكنٍ، فلما لم يجتمع الأولون وهم أكثر الناس إيمانا، وأكثرهم ورعا، وأكثرهم تقوى؛ فكيف بحال المُتأخرين؟! وما ذاك إلا لأن الاجتهاد يختلف، والأدلة تتنوع، وهذا يخفى عليه دليل، وهذا يظهر له دليل، وهناك مسائل اختلفوا فيها من أجل هذا، في مسائل الفروع: في الفراق، والطلاق، والربا، وفي الجنايات، وفي أشياء أخرى”.

 أعلم أن من ديدنهم الانتصار لمذهب شيخهم وإمامهم لن يقتنعوا بما أقول ولا بما يقول غيري ولو جئتهم بكل آية، لأنهم يعدُّون أنفسهم “ورثة للسُّنة” ويعدّون غيرهم “صناعة بدعية” صنعها “أهل الأهواء” من أجل “تضليل الأمة” و”الطعن في السنة”. وأود أن أذكر هنا ببعض المقاصد الشرعية من تشريع زكاة الفطر لعل الذكرى تنفع المؤمنين. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات” (رواه أبو داود وابن ماجة). إن المقصد من تشريع زكاة الفطر هو إغناء ذوي الحاجة عن المسألة، ويحمل هذا المقصد الشرعي في طياته مقصدا اجتماعيا مهمًّا وهو إشاعة سنة التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة الإسلامية وإذابة الفوارق الاجتماعية بينهم قدر الإمكان.

شُرعت زكاة الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وقد كانت حاجة الناس في هذه المرحلة المتقدمة ماسة إلى الطعام، وكان تداول المال تداولا محدودا، ولا يرى بعض الفقهاء مانعا في هذا العصر من إخراجها نقدا، فالمال هنا يقوم مقام الطعام شريطة ألا تجاوز القيمة المالية النسبة المفروضة في نصوص السنة النبوية، أي صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط، فإذا لم يراع ذلك فهذا يعدُّ خروجا عن السنة.

ورد في “مصنف ابن أبي شيبة” و”عمدة القارئ” قول أبي إسحاق السبيعي وهو من الطبقة الوسطى من التابعين: “أدركتهم –يعني الصحابة رضوان الله عليهم- وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام”. وأثِر عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أقرّ في صدقة الفطر نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته نصف درهم، وبذلك قال بعض أئمة التابعين كسفيان الثوري وطاووس بن كيسان والحسن البصري.

اختلف الفقهاء قديما حول حكم إخراج زكاة الفطر طعاما أم نقدا بل كان في المذهب الواحد آراء مختلفة، فقد ورد في “مصنف ابن أبي شيبة” و”عمدة القارئ” قول أبي إسحاق السبيعي وهو من الطبقة الوسطى من التابعين: “أدركتهم –يعني الصحابة رضوان الله عليهم- وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام”. وأثِر عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أقرّ في صدقة الفطر نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته نصف درهم، وبذلك قال بعض أئمة التابعين كسفيان الثوري وطاووس بن كيسان والحسن البصري. تكفي هذه الشواهد لتأكيد جواز إخراج زكاة الفطر نقدا ولو أنني مقتنعٌ بأن جماعة “ونبئنا بكل شيء” سيسارعون كعادتهم للطعن في صحة هذه النقول والقول إنها أقوالٌ مدسوسة ومفتراة ولا أصل لها كما يفعلون عندما تخونهم الأدلة وتعوزهم الحجة.

لا أدري لماذا يتوارى بعض المتفيهقين دهرا ثم يفيقون من سباتهم عند العشر الأواخر من رمضان ليكثّفوا من منشوراتهم وفتاوى شيوخهم في مواقع التواصل الاجتماعي حول تحريم إخراج زكاة الفطر نقدا وليشنِّعوا على كل من خالفهم مع أن في المسألة سِعة، كما ذكرت آنفا؟ ولا أدري في الجانب الآخر لماذا يمعن القائلون بجواز إخراجها نقدا في منازلة مخالفيهم ويغفل الفريقان أو يتغافلون عن الواقع المرّ الذي يمر به المسجد الأقصى؟ ولا بأس هنا أن أعيد التذكير بما كتبته في مقال سابق بجريدة الشروق اليومي بعنوان: “الفتوى التي شغلتنا عن نصرة الأقصى”: “… وكما أننا يجب أن لا ننشد السلم في عز المعركة والعدو مستمرٌّ في استباحة الدماء والتلذذ بمشاهد الأشلاء، فكذلك يجب أن لا نُشغل أنفسنا بخلاف فقهي قديم وعساكر أحفاد “يهود خيبر” تعربد في باحات المسجد الأقصى وتعنّف زواره وعمّاره بدعوى أن مكان المسجد الأقصى ميراثٌ يهوديٌّ مستحق سطا عليه المسلمون وينبغي أن يُستردّ تنفيذا للوصايا التوراتية. إن أغلب هزائم المسلمين في التاريخ الإسلامي مردها إلى قصورهم في فقه الأولويات الذي يجعلنا نهتم ونغتم لخراب البصرة لا أن نتفنن في وصف ميادينها الفسيحة ودواوينها الثقافية العامرة، فالزمن زمن حرب وليس زمن الهيام والإلهام الشعري”.

سُئل الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله عن موقفه من الذين يقولون بإخراج زكاة الفطر نقودا فأجاب: “لا شك أن الذين يقولون بجواز إخراج زكاة الفطر نقودا مخطئون لأنهم يخالفون نص حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط” ومعنى هذا الحديث أن المقصود به ليس هو الترفيه عن الناس الفقراء والمساكين إلى آخره وإنما هو إغناؤهم من الطعام والشراب في ذلك اليوم”.

في كلام الشيخ الألباني رحمه الله ما يُؤخذ وما يُردّ، فهو رحمه الله من جهة الاستدلال بالنصوص حجة لا يُشقُّ له غبار في ذلك، وهو شيخ المحدثين المعاصرين من دون منازع، ولكنه رحمه الله لا يعتدُّ بكلامه من جهة اعتبار المقاصد، وهذا أمرٌ جلي في كل ما قاله وكتبه ونُقل عنه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!