-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مياه راكدة تكتم أنفاس من يحركها

سباحة المستنقعات تنافس الشواطئ في التهام الغرقى

سمير مخربش
  • 262
  • 0
سباحة المستنقعات تنافس الشواطئ في التهام الغرقى
أرشيف

أصبحت البرك والمستنقعات تنافس شواطئ البحر في التهام الغرقى، الذين يفارقون الحياة بعيدا عن السواحل مشكلين قوائم لإرهاب من نوع آخر، يضاف الى إرهاب الطرقات والمآسي التي تحصد الأرواح في لحظة جنون تغذيها الحرارة والبحث عن الاستجمام في المياه الراكدة، التي كتمت أنفاس أطفال ومراهقين طفت جثثهم فوق سطح مياه بعيدة عن زرقة البحر.
هذه المآسي تكررت عدة مرات، وتفاقمت في السنوات الأخيرة بالعديد من الولايات الداخلية، وأضحى لمصالح الحماية المدنية جدولا خاصا بضحايا البِرك المائية، وتقارير لأطفال غطسوا في مياه ساكنة كتمت أنفاسهم إلى الأبد. يحدث هذا في الولايات الداخلية البعيدة عن البحر، أين تزداد حوادث الغرق في البِرك والوديان تزامنا مع ارتفاع درجة الحرارة، التي تعني بالنسبة للعديد من المراهقين تحفيزا للبحث عن أي مجمع مائي أو بِركة تميل إلى الزرقة أو الخضرة، وحتى السواد لتعرف على الفور اكتساحا من طرف الصغار والكبار بغية إطفاء نار الشوق للبحر، والتمتع مجازا بالغطس مهما كانت الظروف.

سباحة الضفادع تحركها المغامرة ويحتضنها التابوت
وبولاية سطيف السباحة في البِرك والمستنقعات لها أصولها وروادها الذين يحبذون المغامرة وتجريب لعبة تحدي الموت، ومصارعة المياه الغدارة التي لا ترحم الصغير والكبير. فمنذ أيام فقط لقي طفل يبلغ من العمر 10 سنوات حتفه في بركة تابعة لوادي بوسلام تقع ببلدية حمام قرقور، وهي البلدية التي قررنا زيارتها وشد الرحال إليها، وكان ذلك في رحلة متعبة دامت قرابة ساعتين انطلاقا من مدينة سطيف. وقد تصادفنا مع زوار الحمام الذين يقصدون المكان للاستحمام، فرغم حرارة الطقس والمياه المعدنية إلا أن هناك من يفضل المياه الساخنة في عز الصيف. ورغم تراجع عدد الزوار هذه الأيام إلا أن لوحات ترقيم السيارات توحي بأن الزيارات مستمرة والزوار يأتون من سطيف وبرج بوعريريج ومسيلة والجزائر العاصمة، فهناك من يريد أن يستدرك ما ضيعه طيلة عامين بدون استحمام في حمام قرقور بسبب الجائحة التي أغلقت كل شيء. وقد حافظ المكان إلى حد ما على حيويته ونشاط مطاعمه التي اشتهرت بالدجاج المحمر والأرز.
وأغلبية المتجولين هنا يضعون المنشفة على الرأس في إشارة إلى أنهم خرجوا للتو من الحمام. وهناك من يكمل الزيارة بجولة عند الوادي الذي تقصده بعض العائلات التي تفضل تناول الغداء بمحاذاته. وبهذه الحافة لنا أن نسير لمسافة طويلة، وهو ما قمنا به رفقة شاب من أبناء المنطقة والذي أرشدنا إلى البركة التي غرق فيها طفل منذ أيام قليلة، فبدت لنا في شكل منعرج مقتطع من الوادي تتجمع فيه المياه مشكلة حوضا طبيعيا تتخلله بعض الصخور، وتحيط به أشجار وحشائش تغري كل من يبحث عن المناظر الخلابة، ويبدو أنه المشهد الذي يستهوي المراهقين الذي يأتون من مختلف المناطق بغرض الاستجمام. فالمكان معزول وهادئ لا تكاد تسمع فيه سوى خرير المياه وأصوات الطيور بمختلف أنواعها. ويقول مرافقنا بأن البِركة لا تكاد تخلو من الشباب والأطفال وكذلك كانت الحال منذ أيام عندما نزل بها مجموعة من الأطفال من أجل السباحة، فاستمتعوا ببرودة المياه لكن فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث علق أحد الأطفال بالوحل ولم يتمكن من الخروج وسط حيرة أصدقائه الذين لم يتمكنوا من إنقاذه، وظلوا يتابعون في فزع تخبط الطفل تحت الماء إلى أن هدأت حركته إلى الأبد وكتمت أنفاسه وانتهى كل شيء في لحظات.
وبحسب مرافقنا، فالمكان خطير وبعيد عن الأنظار، ولذلك يشهد حوادث غرق متعددة، وهو ما أكده لنا النقيب احمد لعمامرة رئيس خلية الإعلام والاتصال بمديرية الحماية المدنية بولاية سطيف، الذي يقول في تصريح لـ”الشروق اليومي” إن هذه الِبركة خطيرة للغاية وخطورتها تكمن في الجيوب المائية التي تتخللها، التي يصل عمقها إلى 3 أمتار، ويقصدها بعض المغامرين كل صيف دون تقدير خطورة السباحة في هذا المكان الذي سبق له أن شهد عدة حوادث مماثلة. وسكان المنطقة يذكرون العديد من أبناء المنطقة وزوارها الذين هلكوا في هذه البركة الملعونة. ويقول محدثنا بأن الأعوان يذكرون ذلك المشهد المفزع لطفل يبلغ من العمر 12 سنة غرق بتاريخ 19 جويلية من السنة الماضية، أين تدخلت فرقة الحماية المدنية لإنقاذه من نفس البركة لكن الأعوان أخرجوه جثة هامدة. والمؤسف، أن هذه الحوادث تكررت أكثر من مرة، ورغم التحذيرات التي أطلقتها الحماية المدنية مازال البعض يقصد البركة بغرض السباحة.
هممنا بمغادرة المكان بعدما انتابتنا قشعريرة تحرك الجسد كلما تذكرنا بأن هذه البِركة ابتلعت أطفالا ومراهقين، وهي أشبه بفوهة بركان تلتهم الصغار والكبار بحِمَمها المائية التي تصل إلى عمق 3 أمتار. وأنت تغادر المكان تشعر وكأن ملك الموت من خلفك ينتظر مجيء مغامر جديد ليقبض روحه تحت ماء تعددت فيه الجثث المبللة.

يدفنون غريقهم اليوم ويعودون غدا للسباحة
غادرنا بركة الشيطان بحمام قرقور، لنحول وجهتنا إلى وادي البارد الواقع شمال ولاية سطيف، الذي اشتهر بشلالاته المنهمرة التي تستقطب الزوار من مختلف ولايات الوطن، وأضحي وجهة مفضلة للراغبين في التمتع بالمياه العذبة التي تنساب من أعالي الجبال على مدار العام لتتفرع في شكل شلالات ومجاري مائية ترسم لوحة طبيعية لها نكهة سياحية عند الذين يقدرون سياحة الجبال والوديان. هذا الوادي يستغل للسباحة والاستجمام والتمتع بالمناظر الرائعة، التي تجمع بين زرقة الماء وخضرة الأشجار وشموخ الجبال التي لها أرجل في الماء وهي الميزة التي عرفت بها المنطقة.
وإلى جانب اللمسة السياحية التي يتميز بها المكان، للوادي مسحة مأساوية كتمت الأنفاس وأسالت الدموع الساخنة في عز الحر، فالمجرى سبق له أن شهد حوادث غرق متعددة، أبشعها تلك التي هزت كيان عائلة مرتين بعد أن فقدت طفلة في العاشرة من العمر رفقة والدها البالغ من العمر 46 سنة، أين علقت الطفلة في المجرى – والحكاية تبدأ دوما بهذا الشكل- فحاول الوالد إنقاذها ليفارق الاثنان الحياة غرقا دون أن يتمكن أحد من إنقاذهما. فهذه المنطقة المعروفة بشلالات وادي البارد والمجاري المائية التي ترسم مناطق طبيعية خلابة أغرت البعض لتحويلها إلى منتزهات سياحية فوضوية، حيث اعتاد الشباب وحتى العائلات على زيارة الموقع ونصب مظلات ووضع طاولات وكراس ظنا منهم أن الوادي مناسب للسباحة والاستجمام في كل مجاريه المتفرعة، وفي الواقع المنطقة تتخللها جيوب خطيرة للغاية لأن الوادي به أحواض صخرية وفجوات عميقة بها تيارات شديدة القوة، الأمر الذي حصد العديد من الأرواح، وبالرغم من أن الكارثة تتكرر طيلة فصل الصيف إلا أن البعض يصر على السباحة في هذا المكان الخطير، فاليوم يبكون غريقا وغدا يدفنونه ويعودون للسباحة من جديد.
ومع حادث الطفلة ووالدها، يذكر النقيب احمد لعمامرة المكلف بالإعلام بالمديرية الولائية للحماية المدنية بسطيف أن الأعوان سجلوا في نفس اليوم حادث ثاني لكن هذه المرة بسد الموان ببلدية أوريسيا شمال سطيف، أين لفظ رجل يبلغ من العمر 45 سنة أنفاسه الأخيرة تحت الماء بعدما اهتدى الى فكرة السباحة بهذا السد المخصص لتجميع المياه. وقبله لقي شاب يبلغ من العمر 31 سنة حتفه بنفس الطريقة بسد عين زادة والقائمة مفتوحة.

ملابس أطفال مرمية بحافة بِركة.. من هنا تبدأ المأساة
إلى جانب الوديان والسدود، الكارثة امتدت أيضا إلى الأحواض بمختلف أنواعها، فالحيرة عايشها سكان بني ورتيلان بشمال ولاية سطيف مع مجمع مائي عرضه 4 أمتار وعمق مياهه تجاوز 3 أمتار، قصدته مجموعة من سكان المنطقة بحثا عن طفلين اختفيا عن الأنظار، وعند الاقتراب من الموقع بدا الحوض هادئا للغاية لكن المشهد المفزع كان على حافة الحوض أين شوهدت ملابس الطفلين مرمية تكاد تنطق وتشير الى مأساة تحت الماء، وبالفعل عند تدخل رجال الحماية المدنية تم انتشال جثتي الطفلين البالغين من العمر 11 و12 سنة، اللذين فارقا الحياة بعدما حاولا تجريب السباحة في حوض راكد لا علاقة له بالاستجمام.
وفي حادث مماثل بجنوب ولاية سطيف، تحرك رجال الحماية المدنية بناء على بلاغ مصالح الدرك الوطني ببلدية قصر الأبطال يتعلق باختفاء طفل بدوار برباس بلدية قصر الأبطال، فتدخلت فرق الحماية المدنية لبلدية عين ولمان لأجل البحث عن المفقود، الذي وجدت ملابسه ودراجته بالقرب من بركة ماء بدوار برباس على مدخل بلدية قصر الأبطال، التي يبلغ قطرها 10 أمتار وعمق 5 أمتار، لتباشر الفرق المتدخلة بقيادة رئيس الوحدة عملية تمشيط الحفرة وتفريغها بالاستعانة بمضخات الماء ليتم انتشاله بعد أن علق بمخطف الإنقاذ، الضحية طفل يبلغ من العمر 15سنة، تم نقل جثته إلى مستشفى محمد بوضياف بعين ولمان.
كل هذه الكوارث وقعت بولاية غير ساحلية، وتكررت في عدد من الولايات وكل الضحايا كانت لهم نية الاستمتاع بالسباحة وتفادي مشقة التنقل إلى شواطئ البحر، لكن هذه الفكرة الجريئة سنها متهورون حملوا وزرها ووزر من عمله بها. وهي فكرة تؤكد أيضا تعطش أبناء المناطق الداخلية للسباحة. فحسب سكان هذه المناطق الذين تحدثنا إليهم، فإن اللجوء إلى البِرك والمستنقعات والأحواض بغرض السباحة سببه انعدام المسابح وغياب المرافق والمنشآت التي تحتضن الشباب خاصة في فصل الصيف. فولاية سطيف تعرف نقصا فادحا في المسابح، وإن وجدت فهي تعرف اكتظاظا يوميا، وما زالت غير قادرة على تلبية رغبة الآلاف من الأطفال والشبان الفارين من الحرارة المرتفعة. هذا النقص دفع ببعض المراهقين إلى اللجوء إلى البِرك والمستنقعات المعروفة بسباحة الضفادع. التي يعتبرونها أفضل بديل للسباحة في البحر وما يرافقها من تبعات.
التساؤل حول هذا النقص توجهنا به الى مديرية الشباب والرياضة، حيث يقول أحد إطاراتها أن مصالح مديرية الشباب والرياضة بولاية سطيف تسعى لمحاربة السباحة في الأماكن الخطيرة بتوفير مسابح متنقلة مخصصة للأطفال موجهة خاصة للمناطق المعزولة، وعلى قلتها وبساطتها هي الآن تلقى رواجا في الأوساط المحرومة. كما تقوم المديرية بتنظيم رحلات إلى مختلف الشواطئ التي تزخر بها البلاد.
ومع تعدد حوادث الغرق تبقى السباحة في الجزائر مقرونة بالعديد من الكوارث سببها التهور، والمغامرة طيلة الصيف في أحواض لا يزيد قطرها عن 4 أمتار هي اليوم تنافس ساحلا طوله 1200 كلم مشكلة بذلك مستنقعا للاستجمام في المياه الراكدة، التي حركها الأطفال والمراهقون فانتقمت منهم، لأنها تقبل الركود وترفض الاعتداء على سكونها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!