-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سلطة القانون وقانون السلطة

عابد شارف
  • 5383
  • 0
سلطة القانون وقانون السلطة

قال الراحل هواري بومدين في أول تصريح له، مباشرة بعد استيلائه على السلطة في جوان 1965، إنه كان يريد ضرورة بناء “دولة لا تزول بزوال الرجال”، وأن هذا الهدف كان من أهم المبررات التي دفعته إلى الإطاحة بالرئيس أحمد بن بلة. وكان الحلم يومها كبيرا؛ حلم يعبّر عن طموح أجيال من المناضلين الذين عاشوا العهد الاستعماري، وكانوا يعانون من عدم وجود دولة ينتمون إليها. كان هدفهم إقامة تلك الدولة، تحميهم أيّام المحنة، ويخدمونها أيام الرخاء والطمأنينة.

  • وكان عدم وجود الدولة الجزائرية يشكل بالنسبة لتلك الأجيال أكبر خطإ تاريخي يجب تصحيحه، إلى درجة أن عددا منهم كان يعتبر إقامة الدولة الجزائرية هدفا كافيا بحد ذاته. وسئل مناضل من ذلك الجيل لماذا كان لا يعترف بالمعارضة خلال عقود طويلة بعد الاستقلال، فقال إنه نشأ ضمن جيل له عقدة واحدة، وهي عقدة الدولة الغائبة. وأضاف، أن تلك العقدة دفعته إلى النضال ثم المشاركة في حرب التحرير من أجل رفع العلم وسماع النشيد الوطني اللذين يرمزان إلى تلك الدولة. أما الباقي، فإنه اعترف أنه لم يكن يعرفه… وقال صراحة إنه كان يعتبر أن كل من يعارض الحكومة كان يظهر وكأنه يريد المساس بتلك الدولة، ولا يمكن التسامح مع من يمس الدولة…
  • وقال مناضل من نفس الجيل آخر إنه سمع بالدولة لأول مرة مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، لما أقيمت الجمهورية الرابعة في فرنسا. واحتار الرجل: كيف يمكن أن تكون فرنسا قد أقامت أربع جمهوريات، ولا توجد للجزائر جمهورية واحدة؟ ودخل الرجل وقتها الثانوية، وراح يبحث، فوجد أن الولايات المتحدة الأمريكية موجودة منذ قرنين، وأنها مازالت تعيش بنفس الدستور، لأن مؤسسي تلك الدولة كانوا يفكرون في الأمد البعيد، كانوا يفكرون في انتشار الأمريكيين إلى غاية المحيط الهادي، وتوسيع مساحة البلاد، ووصول الملايين من المهاجرين، وضرورة إدماجهم في الفضاء الأمريكي الجديد… كل ذلك دفعهم إلى إقامة قواعد تحمي الناس، ويقسم كل أمريكي أنه سيحميها ويدافع عنها من خلال الدستور الأمريكي… وزاد احترام الرجل لأمريكا لما اكتشف أن التعديلات التي عرفها الدستور الأمريكي لا تتجاوز نقطة كل خمسين سنة، وأنها تهدف إلى توسيع الحريات، مثل حرية الرأي وحرية المواطن في حمل السلاح…
  • ونشأ في تلك البلدان فكر جديد، مبني على بعض القواعد البسيطة في السياسة؛ قواعد برزت للوجود مع عصر النهضة في أوربا، مثل الفصل بين السلطات واحترام القانون. وأصبح أهل السلطة يخضعون للقانون والدستور، وأصبح القانون فاصلا يشكل القاعدة الأولى لتنظيم العلاقة بين الناس وبين الحاكم والمحكوم.
  • وإذا حاولنا أن نعرف اليوم ما هي البلدان التي تقدمت، وحققت لأهاليها ازدهارا اقتصاديا واجتماعيا، وضمنت لأبنائها تكوينا لائقا، وأعطت لكل مواطن حدّا أدنى من فرص التكوين والعمل والمشاركة في الحياة السياسية، نلاحظ أن معظم هذه البلدان هي تلك التي أقامت قواعد معروفة وشفافة، وفرضت على الجميع احترامها ولو بصفة شكلية.
  • عكس ذلك، فإن البلدان التي مازالت تعيش الغبن، ومازال سكانها يعانون الفقر والحرمان، فإنها تلك البلدان التي لا يوجد فيها قانون؛ بلدان تخضع لسلطة الحاكم، يقرر ما يخدم سلطته. إنها تلك البلدان التي مازال القانون فيها يخضع لسلطة الحاكم بدل أن يخضع الحاكم لسلطة القانون.
  • هذا واقع لا يمكن الهروب منه. إنه واقع البلدان العربية والإفريقية. فالبلدان العربية لا تعرف في أغلبيتها أفكارا مثل التداول على السلطة واحترام حرية المعارض ولا حرية الرأي. ورغم الأموال المتوفرة عند البعض منها، إلا أنها تبقى ضعيفة من الجانب الاقتصادي والسياسي والحضاري، لأن بنيتها السياسية هشة، يمكن أن تنهار إذا وقعت فيها أية هزة. أما إفريقيا، فإن واقعها أصعب لأن تراكم الأزمات دفعها إلى وضع يوحي أنها غير قادرة أن تخرج منه يوما ما. ويمكن أن نلاحظ أن وجود القانون يعني وجود الأمل، مثلما هو الحال في إفريقيا الجنوبية وأمريكا اللاتينية وآسيا الشرقية وغيرها، بينما تظهر البلدان التي يغيب فيها احترام القانون من طرف السلطة وكأنه محكوم عليها بالانهيار، آجلا أم عاجلا… ولذلك، فإن سلطة القانون تبقى، وإلى الأبد، أرقى من قانون السلطة.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!