الرأي

سياسية عثمان رضيَ الله عنه في الإنفاق العام وتفنيدُ شبهة الإسراف من بيت المال

علي محمد الصلابي
  • 1935
  • 3

اتُّهم عثمان رضي الله عنه من قبل الغوغاء ، والخوارج بإسرافه في بيت المال، وإعطائه أكثره لأقاربه ، وقد ساند هذا الاتِّهام حملةٌ دعائيَّةٌ باطلةٌ قادها أعداء الإِسلام ضدَّه ، وتسرَّبت في كتب التَّاريخ ، وتعامل معها بعض المفكِّرين ، والمؤرِّخين على كونها حقائق ، وهي باطلةٌ ، لم تثبت ؛ لأنَّها مختلقةٌ ، والّذي ثبت من إعطائه أقاربه أمورٌ تعدُّ من مناقبه ، لا من المثالب فيه :
1ـ إنَّ عثمان رضي الله عنه كان ذا ثروةٍ عظيمةٍ ، وكان وصولاً للرَّحم. (وضاح، الحضارة العربية الإسلامية، ص 114) يصلهم بصلاتٍ وفيرةٍ ، فنقم عليه أولئك الأشرار ، وقالوا بأنَّه إنَّما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله : وقالوا : إنِّي أحبُّ أهل بيتي ، وأعطيهم . . فأمَّا حبِّي لهم ؛ فإنَّه لم يمل معهم إلى جورٍ ، بل أحمل الحقوق عليهم … وأمَّا إعطاؤهم؛ فإنِّي إنَّما أعطيهم من مالي ، ولا أستحلُّ أموال المسلمين لنفسي ، ولا لأحدٍ من النَّاس ، وقد كنت أعطي العطيَّة الكبيرة الرَّعية من صلب مالي أزمان رسول الله (ص) ، وأبي بكرٍ ، وعمر ، وأنا يومئذٍ شحيحٌ حريصٌ ، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي. (محمد، فصل الخطاب، ص 82)، وفني عمري ، وودَّعت الّذي لي في أهلي ؛ قال الملحدون ما قالوا ؟ !.

وكان عثمان قد قسم ماله ، وأرضه في بني أميَّة ، وجعل ولده كبعض مَنْ يعطي، فبدأ ببني أبي العاص ، فأعطى ال الحكم رجالهم عشرة الاف ، فأخذوا مئة ألف ، وأعطى بني عثمان مثل ذلك ، وقسم في بني العاص ، وفي بني العيص ، وفي بني حرب، فهذه النُّصوص ، وغيرها ممَّا اشتُهر عنه ، وما صحَّ من الأحاديث في فضائله الجمَّة تدلُّ على أنَّ كلَّ ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال ، وإنفاق أكثره على نفسه، وأقاربه ، وقصوره حكاياتٌ بدون زمامٍ ، ولا خطامٍ . ومع براءة عثمان ممَّا نُسب إليه، إلا أنَّ بعض العلماء ذهبوا إلى أنَّ سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام.

قال تقيُّ الدِّين ابن تيميَّة : إنَّ سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنَّه لقرابة الإمام ، كما قال الحسن ، وأبو ثور ، وأنَّ النَّبيّ (ص) كان يعطي أقاربه بحكم الولاية، فذوي القربى في حياة النَّبيّ (ص) ذوي قرباه ، وبعد موته هم ذوي قربى مَنْ يتولى الأمر بعده ، وذلك لأنَّ نصر وليِّ الأمر ، والذَّبَّ عنه متعيِّن ، وأقاربه ينصرونه ، ويذبُّون عنه ما لا يفعله غيرهم ، وقال : وبالجملة ؛ فعامَّة مَنْ تولَّى الأمر بعد عمر كان يخصُّ بعض أقاربه إمَّا بالولاية ، أو بمالٍ. (محمد، فصل الخطاب، ص 83)
وقال : إنَّ ما فعله عثمان في المال له ثلاثة ماخذ : أحدها : أنَّه عاملٌ عليه ، والعامل يستحقُّ مع الغنى ، والثَّاني : أنَّ ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام ، والثَّالث: أنَّ قرابة عثمان كانوا قبيلة كبيرةً كثيرةً ليسوا مثل قبيلة أبي بكرٍ ، وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم ، وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكرٍ ، وعمر إلى تولية أقاربهما ، وإعطائهم … وهذا ممَّا نقل عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه الاحتجاج به. (ابن تيمية، منهاج السنة، 3/187 ، 188).

2ـ جاء في تاريخ الطَّبري : أنَّ عثمان لمَّا أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزَّحف من مصر على تونس لفتحها ؛ قال له : إن فتح الله عليك بإفريقية ؛ فلك ممَّا أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلاً ، فخرج بجيشه حتَّى قطعوا أرض مصر ، وأوغلوا في أرض إفريقية ، وفتحوها ، وسهلها ، وجبالها ، وقسَّم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم ، وأخذ خمس الخمس ، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع ابن وثيمة النَّضري ، فشكا وفدٌ ممَّن كان معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله ، فقال لهم عثمان : إنَّما أمرت له بذلك ، فإن سخطتم ؛ فهو ردٌّ . قالوا : إنَّا نسخطه . فأمر عثمان عبد الله أن يردَّه ، فردَّه. وقد ثبت في السُّنَّة تنفيل أهل الغناء ، والبأس في الجهاد.

3ـ وكان قد بقي من الأخماس والحيوان ـ في فتح إفريقية ـ ما يشقُّ حمله إلى المدينة ، فاشتراه مروان بمئة ألف درهمٍ، ونقد أكثرها، وبقيت منه بقيَّة، وسبق إلى عثمان مبشِّراً بالفتح ، وكانت قلوب المسلمين في غاية القلق خائفةً من أن يصيب المسلمين نكبةٌ من أمر إفريقية، فوهب له عثمان ما بقي جزاء بشارته ، وللإمام أن يعطي البشير ما يراه لائقاً بتعبه ، وخطر بشارته ، هذا هو الثَّابت في عطيَّة عثمان لمروان ، وما ذكروه من إعطائه خمس إفريقية ، فكذبٌ. (محمد، فصل الخطاب، ص 84) ، لقد كان عثمان رضي الله عنه شديد الحبِّ لأقاربه ، ولكن ذلك لم يمل به إلى غشيان محرَّم ، أو إساءة السِّيرة ، والسِّياسة في أمور المال ، أو غيرها ، وإنَّما دُسَّت في كتب التاريخ أكاذيبُ باطلةٌ ، كان خلفها الدِّعاية السَّبئيَّة والشِّيعيَّة الإماميَّة الظَّالمة ضدَّ عثمان ، رضي الله عنه .

إنَّ سيرة عثمان رضي الله عنه في أقاربه تمثِّل جانباً من جوانب الإسلام الكريمة الرَّحيمة ؛ لقوله تعالى : {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ *} [الشورى : 23 ] ، وقوله جلَّ ثناؤه : {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *} [الإسراء : 26 ] .

كما أنَّها تمثِّل جانباً عمليّاً من سيرة المصطفى (ص) فقد رأى من رسول الله (ص) وعلم من حاله ما لم ير ، أو يعلم غيره من منتقديه ، وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة النَّاس ، وكان ممَّا رأى شدَّة حبِّ رسول الله (ص) لأقاربه وبرِّه بهم ، وإحسانه إليهم ، وقد أعطى عمَّه العبَّاس ما لم يعط أحداً عندما ورد عليه مال البحرين، وولَّى عليّاً ، وهو ابن عمِّه ، وصهره ، ولعثمان ، وسائر المؤمنين في رسول الله (ص) أعظم القدوة.

يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ : وقد كان عثمان رضي الله عنه كريم الأخلاق ذا حياءٍ كثيرٍ ، وكرمٍ غزير ، يؤثر أهله ، وأقاربه في الله ، تأليفاً لقلوبهم من متاع الدُّنيا الفاني لعلَّه يرغِّبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى ، كما كان النَّبيّ (ص) يعطي أقواماً، ويدع اخرين إلى ما جُعل في قلوبهم من الهدى ، والإيمان ، وقد تعنَّت عليه بسبب هذه الخصلة أقوامٌ كما تعنَّت بعض الخوارج على رسول الله (ص) في الإيثار ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : بينما رسول الله (ص) يقسم غنيمة بالجعرانة؛ إذ قال له رجلٌ : اعدل . قال : « شقيت إن لم أعدل».

ويحتجُّ عثمان رضي الله عنه لبرِّه أهل بيته ، وقرابته مخاطباً مجلس الشُّورى بقوله : أنا أخبركم عنِّي وعمَّا ولِّيت ، إنَّ صاحبيَّ اللَّذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ، ومن كان منهما سبيل احتساباً ، وإنَّ رسول الله (ص) كان يعطي قرابته ، وأنا في رهط أهل عيلةٍ وقلَّة معاشٍ ، فبسطت يدي في شيءٍ من ذلك لما أقوم به فيه ، فإن رأيتم ذلك خطأً، فردُّوه. (ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3/190) وقد ردَّ ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ على من اتَّهم عثمان بتفضيله أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال ، فقال : وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتَّى إنَّه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوَّجهم بناته أربعمئة ألف دينار ، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار ـ مليون دينار ـ فالجواب يقال : أين النَّقل الثابت بهذا ؟

نعم كان يعطي أقاربه ، ويعطي غير أقاربه أيضاً ، وكان يحسن إلى جميع المسلمين ، وأمَّا هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقلٍ ثابتٍ ، ثمَّ يقال ثانياً : هذا من الكذب البيِّن ، فإنَّه لا عثمان ، ولا غيره من الخلفاء الرَّاشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ.

المصادر والمراجع:

• ابن تيمية، منهاج السُّنَّة ، تحقيق : محمَّد رشاد سالم ، مؤسَّسة قرطبة.
• محمَّد صالح الغرسي ، فصل الخطاب في مواقف الأصحاب ، دار السَّلام ، مصر ، الطَّبعة الأولى 1416 هـ 1996 م .
• محمد سعيد بن منيع الهاشمي، الطَّبقات الكبرى، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.
• علي الصلابي، كتاب عثمان ابن عفان ، دار ابن كثير.

مقالات ذات صلة