الرأي

سيرتا.. مدينة لا تتعب

عز الدين ميهوبي
  • 5593
  • 0

حين تمّ تكليفي بمهمّة تبليغ دعوات حضور حفل افتتاح تظاهرة قسنطينة عاصمة للثقافة العربيّة 2015، شعرت بفخر، لأنّ في ذلك تمثيل لوطن ومدينة وثقافة. وتساءلتُ حينها ماذا أقول لضيوف سيرتا من وزراء ومثقفين؟ واستجمعت ما في ذاكرتي من تاريخ يمتد إلى أزيد من ألفي سنة، أسماء ووقائع على اعتبار أنني أنجزتُ أكثر من عمل فني مسرحيّ وسينمائي عن سيرتا ورموزها.. وكنتُ أروي ذلك لمن أقصدهم في عديد العواصم التي زرتها..

كنتُ أعرف أنّ الأمر يتعلّق بسيرتا التي صار واجبًا علينا الاحتفاء بها، وأضحى واجبا عليها وعلى أهلها الاحتفاء بضيوفها، وإقامة العرس القسنطيني المأمول..

ففي مثل يوم 16 أفريل قبل خمس وسبعين عامًا رحل واحدٌ من أعلام هذه الأمّة، من الذين حفروا في ذاكرة ووجدان هذا الشعب، وأعني به رائد النهضة الإصلاحيّة في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس.. وهو اليوم الذي اختاره الجزائريون، يوم احتفاء بالعلم، وارتقاء بالمعرفة، لأنّ في رحيل رجل عالم ميلاد أمّة تدرك أنّ خلاصها لا يكون إلاّ بالنهضة واستعادة قيم التطوّر والحداثة. فلليوم دلالة، ولاختيار سيرتا عاصمة للثقافة العربيّة أكثر من دلالة.. 

إنّ سيرتا أو كما يُطلق عليها أبناؤها الأوّلون قيرطا (أي القرية) كما هو الشّأن بالنّسبة لقرطاج (القرية الجديدة)، أخذت لاحقًا مسمّى أحد الأباطرة الرّومان بعد أن أعاد بناءها. قسنطينة، ذات التاريخ المُفعم بالوقائع التي تحفل بها بطون الكتب وجرت على ألسنة مؤرّخي تلك الحقبة التي شكّلت إحدى حلقات التّاريخ القديم، هي واحدة من أعرق مدن الجزائر، بل إنّها الأقدم من حيث كونها ذات حضور متميّز ومؤثّر في عديد الأحداث التاريخيّة الفارقة التي شهدتها منطقة المتوسّط، وكانت رقمًا فاعلاً في فترة الحروب البونيقيّة، غير ما اعتقدته روما وقرطاج بأنّهما وحدهما من يصنع التّاريخ، لكنّ الأمازيغ لم يرتضوا لأنفسهم أن يكونوا مجرّد عصا في يد هذا وسيفًا في يد الآخر، وبنوا الدّولة التي تميّزهم عن غيرهم، ونأوا بأنفسهم عن حروب لا تعنيهم.

سيرتا التي تختزل كلّ ما مرّ بالجزائر من تاريخ، هي أكثر من بصمة ثابتة على أسوار التّاريخ، فقد قاومت كثيرًا، ولم يأخذها النسيان إلى حيث لن تذكرها الألسنة، ويُرمى بها خارج الذّاكرة. قاومت لأنّ الذين بنوها وشيدوها، ودافعوا عنها، مؤمنون بها وبما تمثّله من قوة انتماء، ورسوخ هويّة.

سيرتا، التي عرفت معنى الحرب، ومعنى المقاومة، ومعنى التضحيّة، ومعنى الحريّة والإبداع والفن، لا غرابة أن يتغنّى بها الكتاب والشعراء والفنانون، فهي قلعة محصّنة بأبوابها السبعة، إذ تقول الروايات المتواترة إنّها تنفتحُ صباحًا وتنغلق مساءً، ويجعل منها أهل قسنطينة معلمًا في حياتهم اليوميّة، وهي أبواب تكشف عن خصوصيّة المدينة، يضاف إليها عديد الأقواس التي أنشأها الرّومان في فترة احتلالهم لها. كما تُعرف أيضًا بجسورها وغيرها من مآثر وآثار لم تفقد شيئا من حيويّتها وحضورها عبر التّاريخ.

إذا كان التّاريخ يذكر نوميديا العظيمة، ويستحضر أسماء ماسينيسا الأقليد الذي وضع أسس المملكة بعد توحيد القبائل الأمازيغيّة تحت راية واحدة، ويستعيد مشاهد الصراع مع سيفاقص، والتجاذب الحادّ مع قرطاج بقيادة حنبعل، ودخول الرّومان على خط المواجهة بقيادة سيبيون، فإنّ مؤرّخي المرحلة وشهودها، يذكرون أنّ نوميديا، بعاصمتها سيرتا، كانت حلقة هامّة في المشهد التّاريخي لشمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسّط.

وحين نقرأ تاريخ المدينة والمنطقة برؤية لا تعمل على تجزئة التّاريخ، نقول إنّ الجزائر كانت دائمًا، محلّ تجاذبات بين القوى المتصارعة في مختلف الفترات، لكنّها تسعى دائمًا للحفاظ على تفرّدها وحيادها، وعدم سقوطها في تحالفات لا تحمي مصلحة شعبها، لهذا كانت سمتها المقاومة والرفض. ولعلّ أحفاد ماسينيسا، نجحوا في أن ينقلوا الصراع من ديارهم إلى ساحات روما، ولا غرابة أن يقف يوغورطا خطيبًا في مجلس شيوخ الرّومان متحديّا  روما للبيع.. فمن يشتري؟“. وتلك هي الطينة التي أنتجت أجيالًا من المقاومين للغزاة الوافدين من كلّ الجهات، منذ ألفي سنة، إلى أن قيّض الله لهذه الأرض رجالا شرفاء، حرّروها من إثم المعتدين.

لقد أنجبت هذه المدينة المعطاءة، أساطين العلم والفكر والإبداع، مما يجعل أبناءها اليوم يشعرون بالفخر والاعتزاز، فقد دأبت منذ الفتح الإسلامي على تخريج العلماء والفضلاء والصّلحاء كما يُطلق عليهم، في مجالات الفقه واللغة والأدب والفلك والطب، من أمثال الشاعر أحمد بن الخلوف القسنطيني، والعلامة المحقق القاضي عبد القادر الرّاشدي، والإمام أحمد بن الخطيب بن قنفذ القسنطيني، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الكريم الفقون، والعالم الصوفيّ محمّد بن الحبيب القسنطيني، والقاضي محمّد الحفصي، والعلاّمة محمّد الشاذلي القسنطيني، وغيرهم من العلماء الذين حفروا في تاريخ قسنطينة، بلوغًا إلى رائد النهضة الإصلاحيّة الشيخ عبد الحميد بن باديس، مؤسس جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين، حيث أقام مع ثلّة من أبناء الجزائر المخلصين جدارًا في وجه سياسة الاستعمار الفرنسيّ التي استهدفت طمس الهويّة الوطنيّة، وتشويه الشخصيّة الجزائريّة.

لقد أدرك ابن باديس وإخوانه أن بالعلم والتعليم يتمّ تحصين الناشئة من مؤثرات ثقافة الاندماج والذوبان في ما كان يرمي إليه المستعمر، فأنشأ المدارس، وبثّ الوعي في نفوس الجزائريات والجزائريين، وديدنه في ذلك ما ظلّ يلهج بهإن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت.. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد.. في لغتها، وفي أخلاقها، وفي دينها.“. وهو من خاطب الشعب الجزائري ذات يوم قائلاأيها الشعب الجزائري الكريم، ها أنا أمدّ يدي من قلبٍ يحبك.. فهل تمد لي يدك؟ لنزيل نقصنا بالكمال، وننير جهدنا بالعلم، ونمحو تخريفنا بالتفكير؟.. يدي في يدك أحببنا أم كرهنا لأن قلبي قلبك، وعقلي عقلك، وروحي روحك، ولساني لسانك، وماضي ماضيك، وحاضري حاضرك.. ومستقبلي مستقبلك.. وآلامي آلامك.. وآمالي آمالك..”.

إنّ لقسنطينة إسهامها المتواصل في الفكر والإبداع والأدب والمسرح والفنون التشكيليّة والموروث الثقافي الأصيل، مما جعلها أكثر تميّزًا في حقلها الوطنيّ والعربيّ وحتّى العالميّ، كونُها ذات خصوصيّة معماريّة نادرة، وهي التي مثّلت عبر التّاريخ صنوًا لقرطبة والقدس في التسامح الديني، إذ تعايش فيها كثيرٌ من الديانات، وتفاعلت فيها عديد الحضارات، لهذا من الطبيعي أن تكون عاصمة للثقافة العربيّة بامتياز، ليس ردّ اعتبار فحسب، ولكن تثمينًا لمسارها الطويل الذي يمتدّ إلى أزيد من ألفي سنة وزيادة.

 

إنّ رهان نجاح تظاهرة قسنطينة عاصمة للثقافة العربيّة، يعني أنّ يشعر كلّ واحد من أبنائها أنّه معنيٌّ بالحدث الذي يمثل استراحة مدينة تعبت كثيرًا..

مقالات ذات صلة