شعب يعاقب شعبا
قليلة هي البلدان التي لها ثورة تزيّن تاريخها وتضيء حاضرها وتجعلها تأمل في مستقبل تقطف من خلاله ثمار ثورتها، وكثيرة هي البلدان التي لا ثورة لها ترنو إلى ثورات غيرها وتحاول نكرانها أو مسحها من التاريخ إن استطاعت…
-
ونادرة هي البلدان التي لها بدل الثورة الواحدة ثورات كما هو شأن الجزائر التي ستستعيد غدا أحداث الثامن من ماي التي لا مثيل لها في التاريخ حتى دخل كروموزوم الثورة في مكوّنات شعبها فصار يُصبح على ثورة ويُمسي على ثورة فأتقن الحرث وتجاهل الجني فتكاثرت الثورات وتشابهت، وللأسف مضت كثير منها بتضحيات جسام دون أن تحقق أهدافها، ولن نبالغ إذا قلنا أن ثورة الشارع الجزائري في خريف 1988 سبقت كل حراك في أوربا الشرقية والعالم العربي، ولن نبالغ إذا قلنا أن تلك الثورة ضد أحادية الرأي وقمع الحريات لم تعط أهدافها فاستفاد منها الآخرون، كما جنوا من ثورتنا التحريرية استقلالهم، وبقينا عاجزين عن تحقيق جزء من الشعارات الجميلة التي رفعناها على مدار عقود طويلة بدءا بثورات التنمية الثلاث ومرورا بالعمل والصرامة لضمان المستقبل والرجل المناسب في المكان المناسب وانتهاء بالعزة والكرامة.
-
والدولة التي تعلم كما يعلم الشعب أن بلدنا هبة النفط لم تعد في الأسابيع الأخيرة قادرة على عدّ الإضرابات والاعتصامات وعمليات غلق الطرقات وشلّ الدراسة والعمل، بسبب كثرتها وتشعبها و”سيحانها” في كل مكان، فما بالك بمعالجتها بالدواء الحقيقي وليس بمخدر الاستجابة لها، خاصة أنها أخذت الآن اتجاها غريبا نحو معاقبة الشعب، وصار الشعب يثور أحيانا ضد الشعب كما حدث في إضراب عمال البريد في كثير من الولايات عندما تجاوز أمد الإضراب الحدود وأجبر بعض المتقاعدين والعمال على الإستدانة والتقشف فثاروا على مراكز البريد وأجبروا الثائرين من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية على الرضوخ لثورة الشارع وليس لثورة المشرّع كما كانوا يحلمون.
-
عقاب المواطن لأخيه المواطن من خلال حرمانه من المرتب ومن الدراسة والصحة وتهديده بحرمانه من الخبز والكهرباء صار يقابله رد فعل عقابي من الشعب أيضا من خلال قطع الطرقات وشل الحركة لتنحصر الاحتجاجات في مواطن يعاقب مواطنا بحرمانه من بعض الخدمات عبر إضرابه أو بمنعه من قضاء حاجته بغلق شرايين الحركة في وجهه من أجل أن تقبل الدولة مطالبه المادية الكثيرة التي تبدأ بالأجور وتنتهي بالمنح من أجل اقتسام ما في سلّة النفط الذي ارتفع سعره إلى ما فوق 120 دولار ولم يرتفع أداء الشعب والدولة عندنا إن لم نقل أنه تأخر بخطوات إلى الوراء، فبقي التفكير في كيفية اقتسام ما نجنيه من سلال النفط وليس التفكير في ما بعد النفط، والدليل على ذلك أن العمال يطالبون بحقوق مادية فقط والدولة لا تطالبهم بالواجبات، لأن الطالب والمطلوب يعلم أن الحكاية هي سلة تتجاذبها الأيدي أشبه بكأس الرحى التي لا يريد شاربوها أن يفكروا في صورتها الفارغة أبدا وهم يعلمون أن فراغها مصير محتوم.
-
منذ حوالي ستين سنة، أعلن الجزائريون عن ثورتهم التحريرية بعد ثورات كثيرة أعلنوها والتي قدمت درسا بالمجان لكثير من الشعوب التي جنت قبلهم ومن دون قرابين ما زرعوا، ومنذ أكثر من عشرين سنة أعلن الجزائريون عن ثورتهم الديموقراطية كانت متبوعة بطرق احتجاج جديدة اخترعوها والتي قدمت درسا آخر لكثير من الشعوب حتى صارت الملكية الفكرية للثورات جزائرية ولكن الاستفادة منها لغير الجزائريين.