-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شهادة أسير خلال ثورة التحرير

شهادة أسير خلال ثورة التحرير

هذه مقتطفات من مذكراتي حول الثورة الجزائرية اقتطفت منها هذا النص المتعلق بليلة 19 مارس 1962 عيد النصر وفيها خواطر تلك الليلة حول كيف عشنا نحن الثلاثة في زنزانة من سجن الشلف بعد سماعنا لخطاب المرحوم يوسف ابن خدة رئيس الحكومة المؤقتة من إذاعة تونس، ويليه خطاب الجنرال ديغول من فرنسا عن طريق المذياع، وصوّرت الفرحة العارمة لنا نحن الثلاثة وتحدثت فيها عن كيف تاهت بي الذكرى لمسقط رأسي في قريتنا ثم تحدثت عن واحد من رفاقي المجاهدين معي في الزنزانة، ثم خاطبت السجن اللعين أودعه بعبارات مؤثرة. ارتأيت أن يطلع عليه جيل الاستقلال تعميما للفائدة ومشاركة لنا نحن أبناء الثورة كيف قضينا تلك الليلة الخالدة من 19 مارس 1962 من تلك السنة العظيمة.

وبعد طول عنت وانتظار، وهم يتسقطون الأخبار عن المفاوضات الجارية بين وفدهم ووفد العدو. وكانوا واثقين من أن وفدا تكلؤه عناية الله وهو يفاوض، وظهره محميّ بتلك الدماء الطاهرة الغزيرة التي سقت وروّت وزرعت جبالهم ووهادّهم، وأنبتتها زهورا معطرات بالأمل والحياة، يفاوض، وظهره محميّ بالمجاهدين الأشاوس الذين عاشروا الجبال وعاشوا أوضاعها وصاروا أجزاء لا تتجزأ من سروها ضروها وسنديانها، منغرسين في أرضهم الأم جذوعا وجذورا راسيات، ثبتوا وصمدوا أمام الأعاصير والزوابيع صمود جبالهم الشامخات الشاهقات.
يفاوض وفدهم، وظهره محمي بهم هم المساجين والمعتقلون الذين ثبتوا على العهد رغم أهوال التنكيل والتعذيب، وتحدّوا بصبرهم وعنادهم السجن والسجّان، وصاروا أجزاء صلدة وصلبة أقوى وأعتى من سجونهم، وحوّلوها – رغم قساوتها وشراسة العدو- إلى مدارس رفيعة لصنع العزائم والإرادات الفولاذية في قلوب وعقول الرجال والأبطال. يفاوض، وهو محمي بإرادة الشعب الجزائري الشامخ الأبي الذي هان لديه النفس والنفيس من أجل استقلاله، واستهان بالمآسي والويلات بسبب طلبه لحريته. وفد يفاوض، ومعه كل هذه الهمم والنفوس، ترعاه وترضاه وتحرسه، لاشك أن النصر يكون حليفه، وأن قراره المضمّخ بدماء الأبطال من الشهداء سيكون – بلا ريب- القرار النافذ والغالب.
 
ليلة أسعد ما في العمر
وأخيرا، جاء النبأ وصدق الوعد، وعد الإله الحق الذي وعد به عباده المخلصين الواثقين بنصره، والذين ردّدوا من غياهب السجون، أو من قمم الجبال قوله الكريم: “وإنَّ جُندنا لهم الغالبون”.
وافرحتاه     !     وصل النبأ وصل، سمعه أخوك من أعماق زنزانته على أمواج الأثير، هو ورفيقاه، في تلك الساعة الرائعة، من ذلك اليوم المشهود، في ذلك الربيع البهيج، من تلك السنة الفريدة. سمعوه وأبواب السجن والزنزانة موصدة دونهم. هتفوا من أعماق الصدور، وبأصوات خافتة، تطبيقا لتعليمات الثورة. رباه! حتى هذه الفرحة الكبرى، فرحة الاستقلال، فرحة الفكاك من الأسر، وشيكا، يبقونها مكبوتة في الصدور، خوفا من انتقام جلاديهم، ثأرا ونقمة للهزيمة أمام ثورتهم العملاقة! هتفوا: الله أكبر، تحي الجزائر.
ردّدوها مرارا وتكرارا، الله أكبر، تحي الجزائر، وثبوا كأطفال يعانقون بعضهم رغم ضيق المكان. وقضوا الليل كلّه نشيدا فنشيدا. زأروا كأسود مازالت دونها الأقفاص.
وباتوا ليلتهم تلك السهارى، سكارى بالفرحة حتى الصباح. أي عين يغالبها النعاس؟ ! أي سهاد يغازل الجفن؟! وأي فرحة أكبر من هذه التي تملأ القلب؟! وأي جناح هذا الذي لا يريد التحليق في فضاء بعيد بعيد عن السجن؟! وتحوّل سجنهم في تلك اللحظات الفاصلة، والتي كان قبلها سجنا مظلما باردا مكفهرا طوال سنوات الاعتقال، تحوّل إلى ذكرى عطرة مفعمة بالعزة والافتخار، ذكرى عامرة ثامرة لبطولات وأمجاد، ذكرى شرف ووسام للتآلف والتآخي أمام المحن والشدائد. تحوّل سجنهم ذلك الجبار العتي إلى مجرد أسوار ذليلة كسيرة يجرجر وراءه المخازي والمعرّات، ليظل وصمة عار في جبين بُناته إلى يوم الدين.
لاشك أنك تتصوّر يا أخي كيف قضوا ليلتهم تلك، وآذانهم ملتصقة بالمذياع، وهم يتابعون من إذاعة تونس، وهي تنقل خطاب رئيس حكومتهم المؤقتة، الرئيس يوسف بن خدة، يعلن نبأ إيقاف النار، ونبأ النصر بالاستقلال. ويتسمّعون ويسمعون، ويزيدون من تلك الكلمات الخالدات التي أعلنها مذيع الثورة ولسانها وخطيبها، ومحرّض الهمم والعزائم، ومبكي القلوب والأفئدة، عيسى مسعودي، يعلن، وصوته المتهدج، يحسّونه هم هنا من غياهب السجن، يغالب العبرات، يعلن خبر البشرى: “يا ثوارنا الأشاوس في قمم الجبال، ويا أبطالنا الصامدين في غياهب السجون والمعتقلات، ويا شعبنا الأبي وراء الأسلاك في التجمّعات والمحتشدات، في المدن والأرياف، ها قد تحقّق لك النصر المؤزر بالعزة والكرامة، بالحرية والاستقلال”.
باتوا ليلتهم تلك، وصوته معزوفة تردّدها أبواب الزنازين. أنشودة تهز أركان السجن. أغرودة تشنف الأسماع، وتهدهد الأحلام حتى الصباح. وليس يدري أخوك، لو نام تلك الليلة ماذا كانت تكون عليه أحلامه، لاشك أنها كانت تتلوّن بالورود العطرة يستنشقها حلما كأنه يستنشقها في اليقظة، وتتنوع لناظريه بأمان وردية، يراها من وراء سجف الغيب حدسا، تنبئ بمستقبل زاهر للبلاد والعباد. وآه، يا عمر، كم حرمته أحلام اليقظة في زنزانته تلك، من ليلته تلك، من نشوة ويقظة الأحلام؟!

زيارة لأبيه من الزنزانة
وليس يدري، وهم في فرحتهم العارمة تلك، وفي تلك الأجزاء الحالمة، كيف تاهت به الذكرى، واخترقت في لحظة عابرة ما كانوا فيه، ولسنين طويلة، من شقاوة وبلاء، وما هم فيه الآن من غبطة وابتهاج بالنصر. اخترق الفتى سُدُم الماضي وأسوار السجن، وطارت به الذكرى لقريته، وبالضبط إلى بيت أبيه القابع في حجر ربوة من أرض الأجداد. وتصفّح عن قرب – رغم بُعد المسافة- وجه أبيه الكالح الكادح يحمل في تجاعيده وعلى كاهله أثقال الليالي من عوز وفاقة، وويلات الحرب من شقاوة واضطهاد. تفحصه من زنزانته تلك، وتذكر ما قد يكون لقيه من عنت بسببه من طرف الاستعمار. وما يكون قد عاناه من خوف على حياته أثناء غيابه الطويل، وهو لا يعرف عنه شيئا لأكثر من خمس سنوات. تخيّله وهو يقضي أيامه سائلا عن فلذة كبده الذي انقطعت عنه الأخبار.
ورآه يعيش ثنائية رهيبة بين الأمل واليأس لعودته، خوفا من أن يأتيه النذير ذات مساء، يحمل إليه نعي ولده الذي يكون قد اغتاله الاستعمار رميا بالرصاص أو على أعواد المقصلة. فيتهوّل، ويتشاءم، ويتطير من ذلك “النذير المرتقب”. ويعيش في نفس الوقت أمل أن يأتيه البشير ذات صباح، ينقل إليه نبأ خروج ولده من السجن حيا، وهو عائد ضمن إخوانه المساجين المسرّحين، ترفرف فوق هاماتهم رايات العزة والفخار. فيفرح، ويمرح، ويدب الأمل الكبير في قلبه المكدود. ورآه يضم بين أحضانه إخوته الصغار الذين فقدوا الأم، وصار لهم أبا وأما، يضمهم ويقاسمهم فرحة الانتظار بعودة أخيهم الكبير وبانتصار شعبهم الأكبر. وغالبه الشوق للقياهم، أبيه وإخوته، ولكن ما حيلته ومازالت بينه وبينهم الأبواب والأقفال؟!.
وتذكّر، وهو يتجول في مسقط رأسه، وذكرى طفولته، ومرتع صباه، رفيقيه وصنويه وابني عمومته، عبد القادر، والمداح، ترعرعوا معا وكبروا في جو رهيب من التعاسة والعوز سويا، وطاردوا عصافير الحقل وهي تحاول حماية بيضها وأفراخها، يلاعبونها ويلعبون بها، وهي تذوق حياض الموت، ويزدهون بموتها ببراءة الشباب ونزقه. ويدوسون زهور الربيع بأرجلهم، ويعبثون بوروده التي لا يفقهون شيئا وقتها من قيمتها، ولا يعطون أي اعتبار لأريجها وشذاها، وتكتفي عيونهم البريئة بألوانها وجمالها.
وقضوا زهرة الشباب مترافقين جيئة وذهاب إلى الكتاب، يحفظون القرآن، ويتهجدون بآية وسوره دون فهمه أو تأويله. كما يشاركون أهلهم أفراحهم على قلتها، ويقاسمونهم أتراحهم وما أكثرها. وكان الميدان الوحيد للمعاندة والمشاحنة والرهان هو حفظ القرآن الكريم والتباهي بترتيله. وكانت لعبتهم المفضلة هي التشبه بالفرسان، حيث كانوا يركبون عصيهم ويجرون فوقها كأنها الحصان، ويطلقون البارود الوهمي منها كأنها البندقية.
وكان حلمهم محصورا في أن يصبحوا فرسانا بالفعل ذات اليوم. وعلى أي كان حلما يرنو بهم إلى الأفق الفسيح، ولكنه حلم بعيد المنال، فمن أين لهم بالمال لشراء الأحصنة والبنادق، وما يتبع ذلك من لباس فاخر يكون في مستوى الفارس الشهير بقريتهم؟
وتشابهت حياتهم إلى حد المماثلة. وتجيء الثورة المباركة، وينضم إليها ثلاثتهم في ظروف متشابهة، وفي أوقات متقاربة. وتشاء الأقدار أن يسقط صاحبك الأول أسيرا، ويجتاز الامتحان العصيب بصبر وصلابة على أيدي الجلاّدين من أيام التعذيب وسنوات الاعتقال. ويسقط عبد القادر شهيدا في معركة من معارك الشرف والفداء، في يوم رهيب مازالت ملاحمه تروى في المنطقة حتى الآن. وبعد فترة ليست بالطويلة يسقط المداح أسيرا في يد العدو ويتعرض لصنوف من التعذيب حتى تخلخل كيانه، واختل وجهه في البراري، فلم يذق طعم الاستقلال وبهجته.
تذكّرهما وهو يسرح بخياله في مضارب أهله وعشيرته. وكانت أخبارهما تداعت وتواترت على مسمعيه داخل السجن من إخوانهم المجاهدين الذين سقطوا بدورهم أسرى في يد الاستعمار.
وتصوّر صعوبة عودته لقريتهم بدونهما حيا وسالما. ويعود المداح مختلا ومجنونا. ويغيب عبد القادر غيبة لن يعود بعدها أبدا، وارتعدت فرائصه هجسا من يوم لقيا أوليائهم وذويهم. وكيف يقابلهم، وكيف يواسيهم ويخفف عنهم؟! وتشاء الأقدار بعد ذلك أن يتم هذا المشهد الحزين في يوم بكتهما القلوب، وذرف الجميع دموع الحزن والأسى على الشهيد والفقيد.
وتزيد المأساة حتى تبلغ حد التراجيد الكبرى في التاريخ. فيزيد المرض على المداح بعد الاستقلال. وتتكاثر وساوسه وهواجسه وصرعاته. وتتواتر أخبار فعاله بأبويه إلى حد العقوق والعصيان.
وتبلغ المأساة ذروتها حين يفقد الأب الهرم نور البصر، ثم تليه الأم فتفقد بدورها شعاع الحياة. ويعيش الابن المجاهد مريضا مختلا.
وذات يوم، وهو في صراعاته تلك، يرمي نفسه من جرار على الأرض ليسقط جثة هامدة، فيلقى الله في حال مأساوية يهتز لها الضمير والوجدان. ويفني الأبواب ما تبقى من أيامهما بثكلهما مكفوفين ضريرين. ثم يفارقان الحياة تباعا في وقت قصير بعد موت ولدهما الوحيد. وبذلك انقطع نسلهما إلى الأبد، جوابا واستجابة لقول المعري:
“هذا جناه أبي عليّ – وما جنيت على أحد”
وسبحانه! قدرت وأردت. فلا رادّ لقدرتك ومشيئتك. ولا نملك إلا أن نردد مع الصابرين: حسبنا الله ونعم الوكيل!

خواطر حول رفيقه في الزنزانة
عاد أخوك لزنزانته من وهاد الذكرى، وتأمّل طويلا في وجه واحد من رفيقيه، وقال في نفسه: سأخر غدا، ويعانقني أب وإن كان فقيرا، ويضمني إخوة ولو كانوا صغارا. وتذكر أن رفيقه المجاهد، محمد شمون، الذي يقاسمه زنزانته، كان قد قادته فرنسا شابا إلى حرب الهند الصينية، ففر من جيشها والتحق بثوار الفيتنام، وقاتل معهم. وعند انتصار الحفاة العراة على طواغيت الاستعمار، تطوّع مقاتلا في صفوف جيش التحرير المغربي.
وعندما انكسر العدو، ونال الشعب المغربي الشقيق استقلاله، التحق بصفوف الثورة إلى أن سقط أسيرا في يد العدو جريحا ومضروبا بالغازات السامة التي ظلت في صدره سعالا وصديدا.
وما أن اجتاز عذاب وتنكيل مخابرات الاستعمار ووصل السجن، حتى راح يكاتب أهله ويستفسر عن أخبارهم. وإذا بالجواب يأتيه شؤما ويزيده حزنا وكمدا يخبره بأن عائلته قد أبيدت عن بكرة أبيها. ولم تبق منها إلا ابنة خال ترد على مكاتبته بهذا الخبر المشؤوم.
تصفّح وجهه مليا وقال: رباه! من يشاركه غدا فرحة الاستقلال؟ من يضمه من الأهل غدا ببهجة الفكاك من الأسر؟ من يعالج مرضه وسعاله؟ من يسكن آلام الجسد وأوجاع القلب؟ وكظم أنفاسه – رغم نبأ النصر – حسرة عليه.
آه يا أخي أين هو الآن؟ وماذا فعلت به السنون الطويلة بعد الاستقلال؟ وماذا دهته به الليالي بعد خروجه من السجن؟ لأن الأقدار شاءت ألا يلتقيا من يومها حتى لحظة تسجيل هذه العبارات الدامية. وليس يدري صاحبك من أمره شيئا، خاصة وهو محدود الثقافة، وفقيد الأسرة، وضعيف القبيلة. ولا يدري إذا تسابق إليه أثرياء جهته واحتضنوه، وتقرّبوا إليه بتزويجه من إحدى بناتهم، كما فعلوا مع إخوان له من المجاهدين، احتماء بهم، وخوفا من قصاص الثورة منهم على سلوكاتهم المعروفة أو المشبوهة خدمة لركاب الاستعمار، ثم دفعوهم للطلاق بعد فتور وخفوت وهيج الثورة، ورفع السيف المخيف من على رقابهم، وضرب سدّ منيع من التعتيم عليهم، ومحاولة فقدهم قيمة التمييز الثوري بينهم وبين القعدة أو الخونة، والزج بهم في نهر الحياة المضطرب ليلاقوا صنوفا من الضّهد والضيم من قومهم؟.
وليس يدري عنه إذا تفضل بعض بقايا “لاكوست” ووظفوه حاجبا أمام أبوابهم ليكون حامل البريد بين الكاتبات، ويساهم مع مسؤوليه في نفاقهم وكذبهم على شعبه الذي حمل من أجل كرامته السلاح، ليرد مواطنا دفعته الحاجة للوقوف ببابهم. وليس يدري عنه، إن هم تفضلوا عليه برخصة حانة يبيع فيها شرف الجهاد وعزة النفس، قبل أن يبيع الخمرة سما للمعربدين. وليس يدري عنه، كيف قابل ومازال يقابل، إن كان حيا، سموم الأفاعي وتلوّن الحرباوات التي أتقنها هذا النوع من المسؤولين في إذلال وإهانة المجاهدين، من أناس حكموهم وحاكموهم باسم الثورة والجهاد.
وحسبك الله، يا محمد! إنك لست وحيدا. فالخطب عام والمصاب جلل، والظلم فادح، والكثير من إخوانك سواسية فيه، والشعور بالضيم واحد، وإن اختلفت درجة الوعي به. فاحتسب جهادك للوطن المفدّى، وإن أساك إليه الأنذال باسمه!.
 
حوار التحدي مع السجن الرهيب
وليس يدري، وهو يسبح في خواطره، ماذا كانت عليه خواطر رفيقيه في تلك اللحظات؟ وتأمّل طويلا في جدران زنزانته ولونها الأغبر الكالح، والتي كان يحفظ كل أثقابها وأثغارها وشقوقها لكثرة معاشرته لها، ومكوثه الطويل وراء قضبانها. وجال به الفكر في جنبات السجن كله، فتذكر أقبيته وعنابره وزنازينه واحدة واحدة، لأنه تنقل بين أغلبها. وناجاه من أعماقه شامتا ومذكّرا: آه منك أيها السجن اللعين/ كذا تنقضي زهرة الشباب بين أسوارك الصلبة، وعسسك الربانية، محروما من نعم الكون التي هي ملك مشاع بين بني البشر جميعا والتي ليست قابلة للتمييز أو التحييز، ولا خاضعة للون أو العرق، ولا للمذهب أو الدين، محروما من نعم الكون كطلوع الشمس وغروبها، كاهتلال القمر، وأفوله، كما سيرة النجوم وعدّها، وهي تسبح في فلكها.
خمس سنوات لم تباغته فيها أشعة الشمس عند الشروق حتى من كوة صغيرة في زنزانته. ولم يتطلع خلالها لخيوط فجر تنساب من بين غبشات الظلام طلائع بشر لطلوع شمس، كم اشتاق البصر لمداعبتها. اشتاق أن يراها وهي تصعد برفق من وراء قمة أو أكمة مختالة جميلة رقيقا شعاعها، مداعبا أهداب العين قبل بصرها بشروقها. كما اشتاق ولخمس شداد أن يراها وهي تغرب في عين حمأة تتهادى ببطء نشوى وراء الأفق شفقا أحمر يبكي مغيبها.
كما اشتاق أن يرى القمر هلالا أو بدرا ساطعا عند الغسق أو السحر. وكم حنّت نفسه لمناجاته كليالي السرى، عندما كان يناغيه بأغان بدوية ذهبية كخيوط شعاعه.
والسماء، وآه من السماء عظمة الخلق، وآية الملكوت، ودليل سعة الكون، وجلال الخالق، لم يرها الفتى، ذلك الفضاء المديد الذي لا يحده حد. السماء التي ترعرع وكبر يجيل البصر في أرجائها، فينقلب البصر إليه خاسئا وهو حسير. وكان يعتقد، ومازال، بأنها سكنى الخالق وعرشه، وفيها عروته الوثقى، وبها سدرته المنتهى، وفيها إليه عرج الأنبياء. وقضى العمر رافعا يديه وكفيه ضارعا ومتوسلا، لاعتقاده أنها محط دعواته، ومناط إيمانه، ومكان الاستجابة لابتهالاته وتضرعاته. ورغم أنه يتلو في القرآن “فأينما تولّوا فثمّ وجه الله”، ورغم أنه ليس من المشبّهة، ولا يقر للإله بالجهة، فإن قلبه آمن، ومازال يؤمن بأن خالقه في السماء، لأنه من غير المعقول أن يكون جل جلاله بيننا، وتبقى هذه الدواهي والشرور والمآسي بمعمورتنا!
نعم، هي السماء! فقد شاء سجنه أن يحرمه من رؤية فضائها المديد، وسعتها اللامتناهية طيلة فترة الاعتقال. ولم يكن يرى منها إلا مساحة صغيرة من فناء السجن، وغالبا ما كانت أسقف هذه الأفنية مغطاة تمنعه حتى من رؤية تلك المساحة الصغيرة والقليلة من السماء. خمس سنوات فقد فيها التمييز بين الفصول، إلا ما يشعر به من حر أو برد في جسمه الذي فقد الشعور من كثرة الرتابة والملل. لم ير صيفا كان بالنسبة إليهم، هم أبناء البادية، علامة الخير والابتهاج عندما تكثر الغلال من قمح وشعير. وكم كانوا يعشقون البيادر والأغمار التي يحيطها الفلاحون بطقوس وابتهالات حتى ينزل الإله خيراته في المحصول وبركاته وكم كانت ترافق عملية الحصاد أهازيج ومواويل وأغان عذبة رقيقة تخفف عنهم وطأة التعب وحرارة الشمس المحرقة ! وينتهي الصيف بأعراس وحفلات تيمنا وتبركا بأوليائهم وأقطاب جهتهم، معتقدين فيهم الخير والصلاح.
كما لم ير خريفا بأجوائه المعتدلة وفواكهه المتكاثرة، وأوراق أشجاره المتناثرة. ولا شتاء بأمطاره وثلوجه، ببروقه ورعوده، بغمامه وسحبه. كما لم يزهر بسجنه الربيع بأزهاره وأنواره، بعصافيره وطيوره، فلم يره خمسا تباعا لا معشوشبا ولا مخضوضرا.
كذا يا أخي يا عمر. ضحى أخوك بنعم الكون من أجل نعمة الكيونة. قدم بهدي الإله زهرة العمر فدية على مذبح حرية بلاده. فأي شمس وضّاءة تداعبه أشعتها عند مطلعها والقلب مكبّل بأغلال الاستعباد، والعقل يئن تحت ديجور الظلام والجهل؟! وأيّ مناجاة لقمر يسبح في فلكه حرا بين شموسه ونجومه لشخص عبدٍ رأسُه ومجدُ شعبه معقّر بالرغام؟!
كذا ضحى بشموس الكون وأقماره، بأصباحها وأمسائها، من أجل أن تسطع شمس الحرية ونورها في عقله وفكره، وسرمدا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. سعد ليلتها بتضحيته من أجل أن يصاحبه مجد الجهاد قمرا طالعا فوق غرة الجبين، يحمله تاجا ورمزا على الرأس أينما هلّ وحل، من أجل أن يرافقه كوكب العزة شعاعا في القلب في الحل والترحال، من أجل أن يسطع نور الحرية في أرجاء النفس وخلايا الجسم دائما أبدا، حتى يوارى الثرى في أرض الجزائر الحبيبة!.
حرم خمسا من بهجة الربيع ليستزرعه في الروح زهورا وورودا، ليستنشقه في الوجد شذا وعطورا، ليتسمّعه طيورا تغرّد وألحانا تردّد في أذنيه على مر الليالي والأيام. حُرم خمسا من رؤية السماء. فلتبق محط عزته ومناط كرامته، وموئل همته ووساد رأسه، بعيدا هناك عن صغار الدنيا، وتهافت الدنى، وسفا سف الدنايا!.
وبعد هذا التجوال في جنبات السجن واستذكار شريط الوحشة والعذاب، صاح رفيقك من أعماقه مستشرفا: اتّقد يا عذابي اتقد، فأنت الشموخ والكبرياء. ذكرتني يا سجني وأذكر، فأنت كنت لي ساحة للرجولة والإباء، هدهديني يا ثورة الجزائر، ودثريني، واعذريني إن قدمت لخلاص شعبي قليلا، فالنفس وحدها أملك، جدت بهان فأنت الكرامة والمعجزة. انتفض يا حلمي انتفض، واستمر، لتبق رفيق دربي طول المدى. ناغني يا ناي بداوتي بمواويلها في قريتي، قد اشتقت إليك طويلا، فأنت الرجع في القلب، وفي الأذن أنت الصدى.
كما صاح من أعماق قلبه في نشوة صوفية، صافحا عمن أساء إليه من بني قومه، ومتجاوزا عن وخزات الجروح ونخزات التجريح في تلك الليلة العظيمة من ليالي الجزائر، داعيا ومتضرعا، سبحانك اللهم! فمهما كان ظلم ذوي القربى، فالاستقلال أكبر وأعظم! ومهما كانت أخطاء بني ملته، فالجزائر الأم ألطف وأرحم! ومهما كانت النوايا، فعهد الشهداء أشدّ وأوثق! ومهما كانت الخطايا، فعفوك أوسع وأشمل!؟
لقاء الرفاق بالعناق.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!