-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
كلام حميم

صهيل في ليل رمضان

محمد دحو
  • 4036
  • 0
صهيل  في  ليل  رمضان

كأنه ليس شهر رمضان، وكأنه ليس شهر الصيام والقيام، نفطر على الغناء ونصبح عليه، حتى إذا جاء الليل امتلأت أطرافه بالصهيل من كل ألوان النواقيس والزفرات والآهات، أما الشواطئ فتلبس عُرْيَها، وقد نسي الناس الذكر وصلاة التراويح والتهجّد، ومالوا كل الميل إلى البهائمية وطقوسها، وأمسينا وأمسى الغناء والصخب ( واعجباه ) ديدن الناس في هذه البلاد .

كنت أجلس إلى برامج اليتيمة بعد أن أجهز على صحن من الشربة، وما لذّ من البوراك مع لحم جلفاوي لطالما اضطرني إلى الوقوف ساعات طويلة في طوابير الواقفين، أو الجري في الأسواق (هكذا هي عادتي في رمضان) موزعا بين محلات الجزارين والخضارين، وباعة الفواكه وخزنة التمور التي  تكوي  الجيوب  بأسعارها  كلما  حلّ  بيننا  شهر  رمضان،  أو  كنت  تراني  شاقا  طريق الجزائر  البليدة  بسيارة  البيجو  القديمة  من  أجل  زلابية  بوفاريك  التي  يسيل  لذكرها  لعابي .
هكذا أنا يا سادتي الكرام في شهر العبادة والصيام، قليل الكلام كثير الطعام والخصام، فما أسرع ما أقضي حاجتي من الطعام، قبل أن يفرغ المؤذن من إتمام الآذان، ثم أنطلق بفرح المنتصر إلى فنجان القهوة وسجائري فأمصّها مصّا، فيهيج المخ وتنتفخ الأوداج، وتكسوني قوة الشباب، بعد يوم لا يخلو من المعارك والسباب، والتسكع بين المحال والأسواق، ثم ها أنا وجها لوجه مع برامج اليتيمة (مرغم أخوك لا بطل)، لا حيلة لي في اختيار غيرها من القنوات والشاشات، ولو كنت استطعت لهجرتها إلى برابول (زين وامليح يشفي القلوب والعيون) أسوة بما فعله الجيران، الذين تزيّنت دورهم بأبيض البرابولات ومئات القنوات، آهٍ ليت لي غير راتبي فأفعل ما يفعلون، وأشاهد ما يشاهدون، واستمتع بما يستمتعون، وآكل كما يأكلون، لكن لا حيلة لمن لا مال له ولا قوة، حتى هذه الكاميرا بلا معنى ولا طعم، (واش أداهم) إلى هذه المسخرات العجيبة والبرامج الرديئة؟ ألم أقل لكم إنه لا شيء غير الغناء في (يتيمة الدهر هذه)، صباحنا غناء ومساؤنا غناء، أعيادنا غناء، حتى مناسباتنا الوطنية واحتفالاتنا الرسمية غناء من بعده غناء، غناء يتلوه غناء، وليس لنا والله سوى الصبر على هذا الابتلاء والبلاء، عجبا حتى في شهر رمضان الكريم، لا نسمع إلا الغناء، ولا تذهب نساؤنا وأمهاتنا وآباؤنا إلا إلى حفلات الرقص والغناء، ولا نسمع في الفنادق والشواطئ إلا الغناء، حتى في الشوارع تعصف بأذنيك أصوات تأتي من سيارات يطلق أصحابها العنان للغناء، ولا أحد يسأل عن سر هذا، في بلد ليله  ونهاره  غناء؟ . 
 كم حاولت البحث في شهر العبادة والعمل، عن عمل إضافي بعد نهاية دوامي الرسمي، بعد أن زادت طلبات الأولاد والزوجة، ولقد جربت العمل مع حراس الشوارع العشوائيين في مواقف السيارات، لكني فزعت مما رأيت، أرواح تزهق ووجوه تشوّه بالسكاكين من أجل عشرين أو ثلاثين دينارا جزائريا بين شباب طائش مخدر يستعمل القوة وسيلة للابتزارز، والعصا والسكين ولا أحد يتدخل. ثم إني جربت العمل بسيارتي (كلونديستا)، لكنني لم أفلح مرة أخرى، وقد خذلتني سيارة البيجو القديمة التي كان يتجنّب ركوبها الرجال والنساء على حد سواء لبشاعة منظرها وقدم حالها، ثم إني بعد ذلك حاولت العمل كبائع خضر في حيّنا، لكن الجيران كانوا يفضلون بضاعة الأسواق المغلقة على تاجر متجول بين الأحياء، هذه بعض قصصي في رمضان يا سادة يا كرام، أليست أجمل وأقوى من قصص تلك العمارة الفارغة إلا من الصراخ والتهويل؟ وهذا صحن الشربة التي أحتسيها  فتهبني  قوة  بعد  ضعف،  وهذه  سيجارتي  سرّ  قوتي  وحيرتي،  هل  من  سيناريست  ومخرج ومصور  فأبيع  لليتيمة  قصصي  وحياتي  بدل  هذا  الهراء  بالملايين  من  الدينارات  كما  تفعل  بعض الشركات .
 أما التدخين فحدث ولا حرج، أدخن وأدخن، وليس لي سوى التدخين، بعد أن يتفرق الأولاد على المساجد وبعض الأماكن المحترمة يجربون حظهم مع التسول لعل وعسى يفتح الله عليهم ببعض المال، هل تصدقون ما أقول لكم يا سادة يا كرام؟ إسمعوا إذن الأغرب والأعجب، مرة وفي مثل هذا الشهر الكريم اشتدت علينا الحال وتعسّرت أمور المال، فاقترحت عليّ أم الأولاد أن نلجأ إلى لعب دور الضرير أمام المساجد فلم أمانع، بعد أن طربت لهذه الفكرة الجهنمية، وفي الحال لبست ما يناسب من اللباس ووضعت على عيني نظارة سوداء مهترئة، وكنت أرفع رأسي إلى أعلى هازا تلك العصا البيضاء في وجوه المارة، فيما راحت زوجتي تطلق استغاثات ونداءات تسأل المصلين والعابرين أن أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. كان قلبي يتقطع وكانت عيني تدمع، لكن ما كانت تلقفه يدي من صدقات المحسنين كان أجدى وأنفع. فهل سمعتم بأعجب وأغرب من هذا؟  لكن  هذا  لا  يمكن  أن  يبث  في  التلفزيون  بالرغم  مما  كتب  عنه  في  الصحف  والجرائد .
لقد لعبت أدوارا كثيرة، ولجأت إلى عشرات الحيل بحثا عن لقمة عيش أعيل بها أولادي الثمانية، ولم تكن التبرعات ومطاعم الرحمة وقفة رمضان تكفينا، بالرغم من أنها كانت تقينا ألم الجوع وتستر عوزنا خلال هذا الشهر، ولكننا كنا نتعذب في بقية الشهور الأخرى، فهل سيقولون عنا  هذا  في اليتيمة؟  هل  تلك  المسلسلات  التي  يزعمون  أنها  خاصة  بشهر  رمضان  هي  عنا  أم  عن  أناس  لا  نعرف لهم  وجودا  بيننا  نحن  الفقراء  المحتاجون  المختفون  في  حيائنا  تعفّفا  وطمعا  في  رحمة  الله؟ 
هذه بعض قصصي في هذا الشهر العظيم يا سادة يا كرام، قلت بعضها وأخفيت منها الكثير الذي لا يقال، ولو كتبتها لملأت الصفحات، ولأنتجت مسلسلات أفضل مما في اليتيمة، نعم يا سادة يا كرام، صدقوني، حتى حين أقوم إلى الصلاة يحاصرني الغناء، ويضيع مني الخشوع، فالغناء يصل بيتي ويقطع نوم أولادي، الغناء في داخل البيت وفي غرف النوم، وفي المطبخ والحمام، نعم صدقوني إن قلت لكم ذلك وأكثر عن صهيل يملأ هذا الشهر، حتى لكأننا لسنا في شهر الصيام، شهر العبادة والتوبة والقرآن، بل كأننا لسنا في بلد مسلم يحترم شعائر رمضان وحرمة القرآن. سبحان  الله واستغفره  الله،  اللهم  إني  صائم .
 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!