صوتان .. يبحثان عن صدى
أما الصوت الأول فهو صوت الفطرة الذي عبر عنه أحسن تعبير ألكسيس كاريل صاحب جائزة نوبل في كتابه الشهير “الإنسان ذلك المجهول” عندما قال: “إن الله سبحانه لازم للإنسان لزوم الماء والأكسجين” وأما الصوت الثاني فهو صوت اليقين الذي يمثله قول ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في إحدى حكمه “إلهي ماذا فقد من وجدك وماذا وجد من فقدك؟” إن الإنسان متوجه أبدا بفطرته إلى الله سبحانه ولو انحرف وأخطأ السبيل في الظاهر، لقد قامت الفلسفة قديما وحديثا لتستشرف هذه الغاية فتعددت ضروبها وتنوعت ألوانها في المعرفة فأفضى بها الجدل العقلي إلى سبحات حول الذات والصفات، فلم تستطع ثنائية أرسطو ولااحداية سيبنوزا ولا مثالية أفلاطون ولا تصورات العقليين أن تهدي قلبا أو تريح فكرا.
قيل لعجوز: ألا تخرجين كما خرج جميع سكان القرية ليروا عالما يقولون إنه يمتلك مائة دليل على وجود الله سبحانه؟ فقالت: لا حاجة لي به، فلو لم يكن له مائة شك لما احتاج إلى مائة دليل.
قال فريد الدين العطار في مقدمة كتابه “منطق الطير” “إن الذات الإلهية وراء الإدراك، ولا ينالها البصر ولا الفكر، وكل ما يصف الناس به الله سبحانه فإنما يصفون به أنفسهم” ويقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي “إن الإنسان لا يصل بالحس إلى شيء أرفع من المحسوسات المادية، وقد يرتقي بعقله إلى شيء أرفع مما يدركه الحس ولكنه لا يتجاوز نطاق المحسوسات.
ولقد حاول “المتكلمون” أن ينتهجوا المنطق ويصلوا في ضوء هديه إلى الحقيقة الكلية فغرقت أفكارهم في بحار التفريعات الجدلية الباردة التي لا تهدي حائرا ولا ترشد ضالا ولا تبعث دفء الإيمان وطمأنينة اليقين”
يقول سعدي الشيرازي: “يا من هو فوق الخيال والقياس وفوق كل ما قالوا وفوق كل ما سمعنا وقرآنا، انتهى المجلس وبلغ العمر منتهاه، وما نزال كما كنا في أول وصفك”
ويقول جلال الدين الرومي” إن المتكلمين والفقهاء إنما يحومون حول رواق الوجود من غير أن يدخلوه لأنهم لا يعرفون الحب” لذلك نجد الذين أنعم الله عليهم باليقين من عباده المقربين لا تتشعب بهم السبل ولا تتلوّى بهم المقاصد، لأنهم أدركوا الحقيقة الخالدة من أقرب الطرق، فهم يعيشون دائما في أفق الحديث الشريف “اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”
إنهم لم يسألوا كما سألت الفلسفة عن كنه الله سبحانه، ولم يبحثوا مع المتكلمين عن الفرق بين الذات والصفات، ولم يدخلوا مع المتصارعين في حلبة التشبيه والتنزيه، ولم تخدعهم ألفاظ.. أين؟ وكيف؟ لقد أقبلوا بعزم وصدق على نفوسهم ينعشونها بالذكر والتسبيح فأذهلهم رب الوجود عن الوجود، فلم يسافروا أبدا في الأكوان ولكن سافروا إلى المكوّن، فهو وحده الحي الباقي سبحانه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن.
سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه: هل نرى ربنا؟ فقال: وكيف نعبد من لم نره؟
قال الحلاج “حججت فرأيت الكعبة ولكني لم أر رب الكعبة، ثم حججت ثانية فرأيت الكعبة ورب الكعبة، ثم حججت الثالثة فرأيت رب الكعبة ولم أر الكعبة”
وقال الجنيد السالك : “ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله معه” فزاد الشبلي قائلا: “ما رأيت شيئا إلا الله” وهذه الحالة الأخيرة عند المقربين هي بداية الكمال لأنها تمثل حالة الاستغراق وحالة المعرفة في أسمى ذراها، إذ يرى فيها العبد الصالح المقرب بعين بصيرته الحقيقة المستترة وراء كل الصور والظواهر المادية والروحية.
سئل أبو يزيد البسطامي عن عمره، فقال: أربعة أعوام فقالوا : وكيف ذلك؟ فقال: حجبتني هذه العاجلة عن الله سبعين عاما” كانت ريحانة بيت النبوة السيدة نفيسة رضي الله عنها تقول:
بين أمور تكون أو لا تكون لم تنم أعين ونامت عيون
إن الذي كفكاك بالأمس ما كان يكفيك غدا ما يكون
وهذا منها رضي الله عنها قمة الإيمان وذروة التفويض والتوكل على الله حق التوكل
وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه إذا ألم به مرض بعث إليها يطلب منها الدعاء فيشفى، وفي مرضه الذي توفي فيه بعث إليها يطلب منه الدعاء كعادته، فقالت له: “متعك الله بالنظر إلى وجهه الكريم” فعرف أنه مودع، فكان رضي الله عنه يناجي ربه قائلا:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي ولما قرنته
بعفوك رب كان عفوك أعظما
ومما حكى الإمام ابن حنبل رضي الله عنه بخصوص محنته مع الخليفة المأمون في مسألة خلق القرآن أنه وهو في السجن يعذب اشد العذاب، كان يرى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في المنام وكلما رآه أشاح بوجهه الشريف عنه، وكان ذلك الإعراض يؤلمه أكثر مما كان يعانيه من ألوان العذاب على أيدي السجانين، ورآه مرة أخرى في المنام فقال له: يا رسول الله ألست عل الحق؟ فقال صلى الله عليه وعلى ىله وصحبه وسلم: بلى أنت على الحق فقال له: ولم تشح بوجهك الشريف عني؟ فقال حياء منك إذ عذبك أهل بيتي
وتعرض الإمام مالك رضي الله عنه لمحنة شديدة أيام ولاية جعفر بن سليمان العباسي، فقد حبسه وضربه بالسوط حتى انخلعت كتفه، لأنه أبى أن يتراجع عن فتواه في عدم جواز طلاق الإكراه، وكان العباسيون يرون هذه الفتوى مغزى سياسيا لأنها تستتبع، بالقياس، عدم جواز مبايعتهم بالإكراه وأنه يجوز لمن أراد أن يتحلل من بيعته لهم ليبايع محمدا بن عبد الله بن الحسن الذي خرج عنهم في تلك الآونة، وكان الإمام مالك قد أغمي عليه من شدة الألم، ولما أفاق قال: أشهدكم أني جعلت ضاربي في حل، أي عفوت عنه، ولما سئل عن ذلك قال: خفت أن أموت وألقى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأستحي منه أن يدخل بعض آله النار بسببي.