الرأي

طلبة الجزائر.. من الثورة إلى الحراك

ح.م

سيظل 19 ماي 1956 محطة وطنية لامعة في تاريخ الطالب الجزائري الحديث، إنه يوم الفصل الثوري الذي قرّر فيه طلبة المجد الانحياز للوطن مثل أقرانهم من أبناء شعبهم الثائر، تاركين مقاعد الدراسة في زمن عزّ فيه التعليم، بعدما رفضوا الصعود الاجتماعي على جماجم الشهداء، وصرخوا بمقولتهم الخالدة “إنّ الشهادات لن تصنع منّا أحسن الجثث”.

لقد اختاروا طواعية وعن وعي عميق أن يكونوا رجالا بواسل في الموعد الحاسم مع الرهان التاريخي للجزائر، مُنكرين ذواتهم الطّموحة ومُتعالين على حظوظ النفوس الدنيويّة، لأجل حريّة الوطن وعزّة الأمّة، إنه رعيل فريد من الأبرار الأخيار، جديرٌ بالامتنان والإكبار، والانحناء أمام عظمته، إجلالاً لتضحياتهم الجسام بأرواحهم الطاهرة، في فداء كرامتنا المغتصبة من الاحتلال الغاشم.

كان جيلاً عبقريّا بكل المقاييس، صادق الولاء للوطن، وحين تقرّرت العودة إلى استئناف الدراسة، ظلّ أغلبه مجاهدا حاملا لسلاح البطولة في الجبال وفوق الوهاد، حتى كتب الله له الشهادة والنصر معًا.

إنْ كان التاسع عشر من ماي يومًا مجيدًا في أيام الجزائر الخالدات، ومناسبة للفخر والاعتزاز بصنيع الآباء والأجداد، فإنها قد ألقت بعبء ثقيل على كلكل الأجيال، في الوفاء بالأمانة كلّما نادى مُنادي الواجب أنْ هُبّوا لنجدة الوطن.

وعلى مدار عقود من الاستقلال، كان لطلبة الجزائر صولات في ساحات النضال على مختلف الأصعدة، حتى أتى على البلاد عهدٌ من السنين العجاف، نجحت فيها منظومة الاحتواء والتدجين من ترويض النخب في مختلف الواجهات، ليتحول القلب النابض للمجتمع إلى قطيع صاغرٍ وتابع لجهاز السلطة السياسية، أو مستقيل خامل على هامش الواقع الاجتماعي، إلى أن تفجر بركان الغضب الجزائري  يوم 22 فبراير من العام الفائت، ليقفز الطلبة بكل عنفوان إلى قلب المعمعة في معركة التغيير الشامل.

لقد أعاد الحراك الشعبي إلى الطالب الجزائري روحَه المتوثبة نحو المعالي بعد مواتٍ، وبعث فيها حبّ المجد إثر هوانٍ، ونفخ في أوصاله نفَسَ الحياة في أسمى معانيها الرساليّة على فترةٍ من الانطواء العدمي، إذ توشّحت الجزائر طيلة شهور بمسيرات مبهرةٍ، علتْ فيها راية الوطن وآمال الأمة فوق مطالب البطون، ما أثلج صدور السلف بتيقّظ همة الخلف.

لقد شكّل الحراك لحظة فارقة لمصالحة الجماهير الطلابية مع المشاركة العامّة في إدارة الصراع السياسي لأجل الحريّة، وشيّد من جديد جسور الثقة مع الذات ومع قوى المجتمع الحيّة في خوض معركة ضاريةٍ لكسر قيود التسلّط والاستبداد.

قطعًا لم تنته المهمة المطلوبة عند حدود الغضب، لأنّ خروج الطلبة الجزائريين إلى الشوارع لا ينبغي أبدا أن يكون موقفًا انفعاليّا للتنفيس عن كبت القهر والشعور بالمذلّة، بل هو في الأصل فعلٌ واعٍ ينمّ عن إرادة جمعيّة ناضجة، في أداء دور مجتمعي متقدم على درب الانتقال الديمقراطي والرفاه الاجتماعي والاقتصادي المنشود.

لذلك من الضروري اليوم الاستثمار في ديناميكيات الحراك وما أفرزه من استعداد جماعي للبذل في سبيل الصالح العام، بهدف صناعة طبقة سياسية ومدنية بدماء ساخنة وسواعد فتيّة وعزائم صلبة وهممٍ طموحة، في صورة مبادرات جديدة تملأ الفراغ أو تستدرك الخلل، ولو من خلال المساهمة النوعية مؤقتا في إبداء الرأي والمقترح وتفعيل النقاش العام، قبل أن تتبلور مستقبلا كتنظيمات بديلة في الساحة الوطنية.

وعلى الأحزاب الجادّة التي استثمرت خلال السنوات الماضية في التنشئة السياسية أن تركز جهودها وتضبط رؤيتها وتحيّن برامجها وفق نتائج الحراك الشعبي، باعتبارها تملك الخبرة التنظيمية والرصيد التراكمي الذي يؤهلها لتجنيد كوادرها الشابّة ومواصلة تعبئة الساحة الشبابية والطلابية، سواء عبر الأطر القائمة أو من خلال إطلاق فضاءات تكميلية مبتكرة.

إنّ تحريك الكتلة الصامتة، وعلى رأسها تلك الفئات الحيّة، يكاد يكون أهم مُنجز ضمن مكاسب الحراك الشعبي على المدييْن المتوسط والبعيد، فهي التي ستحرُص مسار التغيير وتقوّمه في حال الاعوجاج، ما يعني أن انسحابها من جديد أو الفشل في احتوائها نضاليًّا سيكون ضربة قاصمة تعيد الوضع الجزائري إلى نقطة الصفر!

مقالات ذات صلة