-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

طوفان الأقصى يحرِّر العالم

بقلم: العابد بكاري
  • 485
  • 0
طوفان الأقصى يحرِّر العالم

قال إسحاق شامير: (الجيل الحاضر تكفيه الحدود الحالية، والجيل القادم بحاجة إلى حدود أخرى، وإنه من الخطأ أن نوهم شبابنا أن سلاما يمكن أن يكرَّس بيننا وبين العرب)، وقد كان شامير يتوقع دوما أن الصراع سيتواصل بين الجانبين، وهو ما يفند مزاعم إسرائيل في التعايش والسلام، فمنذ الإعلان عن وعد بلفور سنة 1917 والقاضي بزرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية، تصدت الدول العربية لهذا الاحتلال بسلسلة من الحروب بداية من سنة 1948، سنة 1956، حرب 1967، حرب أكتوبر1973، غزو إسرائيل للبنان سنة 1982، انتفاضة سنة 1987.

ونظرا لعجز الدول العربية عن تحرير الأراضي الفلسطينية بالقوة، تبنّت خيار التفاوض اعتقادا منها بإمكانية تجسيد السلام بين الطرفين، وجرى التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد لإقرار السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979، ثم عُقد مؤتمر مدريد للسلام سنة1991 الذي مهّد لميلاد اتفاقية أوسلو سنة 1993 إذ وُقّع اتفاقُ الحكم الذاتي الفلسطيني، ثم مفاوضات طابا سنة2001 بشبه جزيرة سيناء، وآخرها اتفاقات أبراهام.

وبالرغم من كل التنازلات المقدمة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أن الاحتلال كان كل مرة ينكث بعهوده ويماطل في الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني موهما إياه بإمكانية تجسيد حلّ الدولتين، فضلا عن الأراضي التي سلبها من دون وجه حق، فقد تمادى في قضم أراضي الضفة الغربية وفرض أبشع حصار على قطاع غزة، بل كان يخطط لوأد القضية الفلسطينية، إلى أن باغتته فصائل المقاومة بعملية “طوفان الأقصى” الاحترافية في 7 أكتوبر2023، فأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد محاولة إفراغها من محتواها. وهنا نتساءل: ما هي الأبعاد الحقيقية وتداعيات طوفان الأقصى على العالم؟ وكيف للشعوب والدول الإسلامية والعربية أن تتعظ من التجربة، وتنصر المقاومة في حربها على الصهاينة؟.

إن نجاح طوفان الأقصى بالرغم من الاعتماد على معدات بسيطة، كان بمثابة الصدمة التي لم تستفق منها إسرائيل إلى حدّ الساعة، وترتَّب عنها تهاوي أسطورة أقوى جيش بالمنطقة، وفضح الفشل الاستراتيجي العسكري والاستخباراتي والتكتيكي والإعلامي للكيان، من خلال الولوج إلى العمق الإسرائيلي وقتل 1400 شخص وأسر 240 إسرائيلي حسب دولة الاحتلال التي شنت بدافع الانتقام حربا شعواء على شعب غزة الأعزل بدعم عسكري ولوجستي أمريكي وأوروبي، وأمام خذلان عربي إسلامي منذ أزيد من ستة أشهر، أسفرت عن سقوط أكثر من 34 ألف شهيد؛ ثلثهم نساء وأطفال، وجرح أكثر من 76 ألفا وفقدان أكثر من 8000، وأكثر من نصف مليون من سكان غزة يعانون مجاعة غير مسبوقة، لكن دون أن يحقق هذا العدوان أهدافه المعلنة: القضاء على حماس، تحرير الأسرى، تغيير السلطة بغزة، وهذا بفضل العقيدة الجهادية لجنود المقاومة، وقوة إيمانهم بالقضية، إما العيش بعزة وإما الموت بكرامة، ما أربك دولة الاحتلال وجعلها تعيد طرح حلّ الدولتين الذي طالما تغنّت به بمباركة أمريكية على مدى ثلاثين عاما من دون الالتزام بالعهود والمواثيق، وتضطر تحت ضغط الداخل–يهود السفارديم- واستمرار مظاهرات أهالي الأسرى في شتى المدن، للتفاوض حول صفقة تبادل الأسرى دون رغبة منها في توقيف شامل للحرب بنيَّة القضاء على المقاومة، أو تقديم ولو انتصار وهمي واحد يعفي نتنياهو من المساءلة.

بيد أن المقاومة التي تدير الحرب باحترافية عالية بفضل قيادتها المتمرِّسة جراء تجارب تراكمات الحروب التي خاضتها سلفا، تدرك حقيقة الكيان الذي يمتهن الكذب والأراجيف على مدار 75 سنة من الاحتلال هو بصدد الضغط عليها للانصياع لشروطه بورقة تجويع الشعب والتمادي في القصف الأعمى والوحشي لبيوت أسرهم وأهاليهم، فالمقاومة هي من أمست اليوم تتحكم بالمشهد برمّته طالما تمسك بيدها أثمن ورقة وهي الأسرى المحتجزين لديها، فضلا عن تقديمها لكل الشعوب دروسا في تجليات معاني الإنسانية عند التعامل مع الأسرى المحتجزين والرفق حتى بكلابهم، على نقيض ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال من تعذيب ومهانة.

ثم أن غزة الشموخ جنودا وشعبا لم تعد تنظر إلى الحرب بميزان الخسارة والربح فحسب، بل تعتبرها حربا وجودية وامتدادا لسلسلة الحروب التي خاضتها منذ 1948 إلى يوم الناس هذا، والتي ستنتهي يقينا إلى تجسيد الحلم الفلسطيني في إقامة دولته وعاصمتها القدس، أو الاندثار مثل الهنود الحمر، لأن التاريخ عادة ما ينصف الثائرين ويشيح بوجهه عن المتخاذلين.

وبرغم كلّ المجازر وأعمال الإبادة والتجويع والتدمير، حررت غزة العالم بأسره من أكذوبة إسرائيل المظلومة، وفضحت نفاق أمريكا في تقمص دور المغيث وشريك الاحتلال في الإبادة في الوقت ذاته، وإنقاذ البشرية من الطغيان الأمريكي الدولي، وغياب العدالة الدولية، وكشفت زيف الديمقراطية الغربية التي آثرت أن تدعم إسرائيل الدولة الوظيفية وتسعى لتثبيتها في خاصرة الوطن العربي خدمة لمشروعها المتعلق باستغلال كل ثروات المنطقة العربية واستعباد شعوبها من المحيط إلى الخليج، ثم الإجهاز فيما بعد حتى على من طبّع وأمّن الجسر البري لإيصال المساعدات لدولة الكيان في عزّ مأساة الشعب الفلسطيني، كما أن غزة السهل المفتوح والمحاصَر من عدوٍّ غاصب يسعى لتملّكها وأخوة عرب يتجهّمونها، وعبقرية طوفان الأقصى في تطوير الصناعات الحربية، والمحافظة على قدراته بعد كل هذا التجييش والاستنفار، واستعاضته لتضاريس الجبال والأحراش والأدغال الضرورية للتخفي في الأنفاق الطويلة والعميقة لتأمين السمكة في الصحراء، وصموده في وجه احتلال يملك الأسلحة التكنولوجية طيلة هذه الفترة يعدّ معجزة القرن وانتصارا في أدبيات الاستراتيجية الحربية، يستحق أن يدرَّس بالمعاهد الحربية مستقبلا، ويؤهِّله لأن يرتقي إلى مدرسة لأحرار العالم، ويسمو إلى أن يكون أمل وقدوة الأمة يحتذى به لشقّ طريق النصر والتمكين في الأرض.

لقد استطاع طوفان الأقصى بجسارته أن يحطم كبرياء الكيان وجبروته، وأن يثبت أن هذه الحرب تختلف عن سابقاتها بتأثيرها القويّ على ميزان القوى الدولية، والإيذان ببوادر أفول إمبراطورية الطغيان الأمريكية، وبروز عالم متعدد الأقطاب، والتبشير بميلاد عالم أكثر إنسانية وتحضرا، خال من جرم الصهاينة وقبح الأمريكان، والتأثير على الرأي العام العالمي من ناحية كشف الوجه الحقيقي البشع للمارد الإسرائيلي، والكشف عن أن أمر التسويات والتفاوض هنا وهناك ما هي إلا مجرد مماطلة لا صلة لها بالواقع العملي، وأن لا بديل لصوت القوة لاستعادة الحقوق المسلوبة، وأن الدولة الفلسطينية هي قاب قوسين أو أدنى من التشكّل بحدود معلومة عاصمتها القدس، وأن إسرائيل سوف لن يكون لها الدور الذي كان لها قبل تاريخ هذه الحرب بسبب تزايد الهجرة العكسية وانخفاض استقطاب المهاجرين بسب تردي الوضع الاقتصادي وانعدام الأمن، وأن العدد الهائل من شهداء المقاومين والمدنيين يمثل ضريبة باهظة لنيل الحرية التي لا سقف لها ولا ثمن، وأن تحرير فلسطين في حدّ ذاته يعدّ إعلانا عن بداية تحرير كل الشعوب الإسلامية التي عُطِّلت كفاءاتها، وأقصِيت من الحضارة، والتي نأمل أن تحذو حذو هذا الإنجاز التاريخي الباهر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!