الرأي

عايرهم بالاستعمار لعلهم يستحون!

فيصل القاسم
  • 27510
  • 29

تضاربت الروايات حول الدكتورة أحلام حسب الرسول، فالبعض يزعم أنها شخصية حقيقية، والبعض الآخر يقول إنها شخصية افتراضية في رواية أدبية.

ولمن لم يسمع عن تلك الشخصية فهي أستاذة في التاريخ شكلت تنظيماً سياسياً للمطالبة بعودة المستعمِر إلى بلادها. فما كان من السلطات إلا أن اتهمتها بالجنون لتودعها لاحقاً في مستشفى للأمراض العقلية. لا يهمّنا، بأي حال من الأحوال، إذا كانت الشخصية حقيقية أو وهمية، فالمهم أن تلك الشخصية يشاركها الرأي في موقفها من الاستعمار والأنظمة العربية التي حلت محله الكثيرون في طول العالم العربي وعرضه.

ما العيب الأخلاقي والشطط العقلي في أن يقارن المرء، كما فعلت الدكتورة أحلام، بين سجل الاستعمار الحقير وسجل الدولة الوطنية العربية المزعومة التي تحكم البلاد العربية منذ الاستقلال؟ هل هذا ضرب من الجنون لمجرد المقارنة بين إنجازات المستعمر الأجنبي والحاكم الوطني؟ ألا تقتضي الأمانة الإعلامية والعلمية أن تكون هناك مقارنات دقيقة بين العهدين الاستعماري والوطني، لا بدافع الخيانة، بل من أجل وضع النقاط على الحروف وتصحيح الأخطاء واستفزاز الحكومات الوطنية كي تفعل كل ما بوسعها للنهوض بالأوطان وتنمية الشعوب؟ ولماذا يخشى بعض النظم العربية من تلك المقارنات وينعت القائمين بها بأنهم مجانين جديرون بالإيداع في مستشفيات الأمراض العقلية؟ فبدلاً من الزج بالدكتورة أحلام في مستشفى للأمراض العقلية لمجرد أنها تمنت عودة الاستعمار البريطاني، كان ينبغي على السلطات أن تتصدى للدكتورة أحلام بالحجة والبرهان، لا بالتخوين والسجن.

لقد سأل صحفي الدكتورة أحلام: “كيف تطالبين يا دكتورة بعودة الاستعمار إلى بلادك، هل هذا حديث إنسان عاقل”؟ فترد الدكتورة: “وهل ما حدث في هذا البلد منذ الاستقلال حتى الآن هو من فعل إنسان عاقل؟… أتابع بدقة ما يدور ومنذ زمن بعيد بحكم اهتمامي بالتوثيق لما حدث ويحدث… وقد حان الوقت لإنصاف الاستعمار… ألم ينقلنا  إلى مشارف القرن العشرين… قدم لنا سكك حديد… قدم لنا تعليماً مدنياً راقياً… قدم لنا أفضل جهاز خدمة مدنية… ازدهرت في ظله المشاريع الزراعية وفنون الغناء والشعر والصحافة الورقية… عرفت الأسواق معنى النظام والتسعيرة… عرف العربي معنى احترام حقوق الحيوان… الاستعمار هو الذي خلق العالم العربي الحديث… ومع ذلك مطلوب مني وأنا أشاهد الكليات وسكة الحديد والمشاريع والشوارع العملاقة والقصر الجمهوري ومباني كل الوزارات والبنوك ومشاريع الري المختلفة وتخطيط المدن ـ قبل تدميرها بواسطة عصابة الأحزاب فيما بعد ، والكباري المختلفة ومجموع القوانين العلمانية الرائعة التي شرعها المستعمر والتي تحترم حق الإنسان والحيوان… مطلوب مني بعد كل هذا أن أقول للطلبة عندي في الجامعة إن المستعمرين هم مجموعة من اللصوص والأوباش؟؟”.

وتردف الدكتورة أحلام مضيفة: “المستعمرون هم أصحاب الفضل في التنوير والتثقيف العقلاني والحداثة للعقل ويجب الاعتراف بذلك… معهم وبهم عرفنا معنى أحبار المطبعة. وعندما أطالب بوضع بلدي تحت الإشراف الدولي، فهذا يعنى نقل البلد إلى مشارف القرن الحادي والعشرين… ومن أجل مصلحة أجيال المستقبل… ليس هناك عيب على ما اعتقد أن نذهب للمجتمع العالمي ونقول له نحن فشلنا تعالوا ساعدونا”.

ثم يسألها الصحفي: “وهل يعنى ذلك يا دكتورة أن المستعمرين كانوا يعملون من أجل خاطر عيوننا فقط؟… وأنهم قطعوا كل تلك المسافة الطويلة فقط من أجل صناعة بلد عربي رائع؟ تجيب الدكتورة: “أعلم أن فن السياسة وغابة المصالح الاقتصادية مجال لا علاقة له بالحب والكراهية… أنا مدركة تماما أن المستعمرين وصلوا إلينا من أجل مصلحتهم هم في المقام الأول ـ ولكن المنفعة كانت متبادلة… يعني باختصار خذ وهات. لم يستفيدوا وتركونا في العراء كما فعلت الحكومات الوطنية عسكرية كانت أم مدنية… المستعمرون حافظوا على البقرة التي تحلب لهم… الأحزاب والعسكر قالوا أنا ومن بعدى الطوفان… اعتبرنا يا سيدي فريق كرة قدم كبيراً، وبلدنا هو دار هذا النادي ونحن جلبنا مديراً فنياً أجنبياً ليصنع لنا بطولة بين شعوب الأرض، وفى المقابل يأخذ هو راتباً مجزياً ـ هذا مثل لتوضيح الفكرة… وضع البلد تحت الإدارة الأجنبية هو الحل الوحيد لوقف هذا النهب… لهذا قالوا إن هذه الدكتورة مجنونة وعميلة… ما هو مفهوم العمالة؟… هم من باع البلد سراً ودفنوا فيها نفايات ذرية. هذه هي إنجازات الوطنيين في بلدي… أمّا حكاية السيادة الوطنية والقرار الوطني فهي من أجل أن يظل من كان ينهب أجداده هذا البلد منذ الاستقلال أن يواصل هو وأبناؤه وأحفاده نهبها إلى قيام الساعة”.

“الشخصيات الوطنية ـ وهو تعبير مهذّب لعدم وطنيتهم الظاهرة ـ كانت شخصيات عقيمة همّها الأول ممارسة لعبة تحالفات الكراسي… فتحوا الطريق للرأسمالية الطفيلية لامتصاص دم الشعب… كانوا مهرجي سيرك أكثر من كونهم ساسة ناضجين… أجهضوا مع سبق الإصرار والترصد كل إنجازات الاستعمار الوطني أكثر منهم… حافظوا بكل همة على امتيازاتهم ولمعانهم السياسي والشخصي… وسّخوا ثوب الخدمة المدنية التي كانت في انضباط ساعة (بيج بن) الشهيرة في لندن… كان لدينا أيام الاستعمار الراقي والرائع معا قطار يأتي بالدقيقة والثانية والآن وبعد كل هذه السنوات من السيادة الوطنية الجوفاء والخرقاء والحمقاء ـ هذه ثلاثية هجائية ـ من الممكن أن تنتظر القطار العربي عشرين ساعة وفى النهاية لا يأتي لك… نحن شعوب فاشلة… هذه حقيقة… شعوب لا تعرف كيفية إدارة دولة عصرية حديثة… وهذه حقيقة أخرى… النخب  في الحكومة والمعارضة نخب فاسدة ومفسدة تعفنت، ولا أحد يريد دفنها حتى نمنع انتشار الجراثيم والبكتريا… هؤلاء يا سيدي في الحكومة والمعارضة على استعداد لبيع (لباسات) أمهاتهم الداخلية من أجل منصب وزاري وحفنة من الدولارات الخضراء… النخبة فاشلة بالثلاثة والسوس ينخر فيها… وضع البلد تحت الانتداب الدولي هو الحل الناجع لوقف نزيف الدم والجوع”.

لا أعتقد أن الدكتورة أحلام ولا كل الذين يشاركونها الرأي يريدون عودة الاستعمار إلى العالم العربي بشكله التقليدي، مع العلم أنه موجود بين ظهرانينا بأشكال أخرى أشد وأنكى، فالغزاة ليسوا جديرين إلا بالكنس والطرد مهما زيّنوا أهدافهم.

إن الذين يعايرون الأنظمة العربية الحاكمة بأن الاستعمار أفضل منها  يذكرونني بشخص في قريتنا خاب ظنّه بأولاده، فلم يجد فيهم نفعاً، فراح يصرخ أمامهم بأعلى صوته: “ليتني أنجبت قططاًً لربما كانوا أحسن منكم”، لعل أبناءه يستحون على أنفسهم ويحققون شيئاً. وأنا أعرف أن أبناء ذلك الرجل قبلوا التحدي وأنجزوا الكثير ليصبحوا فيما بعد ذوي شأن. فهل تفلح المعايرة مع الحكومات العربية؟ أم إن الذين استحوا ماتوا؟. 

مقالات ذات صلة