-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عبد‮ ‬العزيز‮ ‬عُرابي

عبد‮ ‬العزيز‮ ‬عُرابي

هذا شخص ليس زعيما من الزعماء، وليس أديبا من الأدباء، وليس شاعرا من الشعراء، وليس غنيا من الأغنياء… إنه أستاذ من مصر الشقيقة تتلمذت عليه في مادتي التاريخ والجغرافيا بثانوية الشويخ بدولة الكويت الشقيقة، التي لها فضل – يذكر فيشكر – على عدد كبير من الطلاب العرب من مشرقهم إلى مغربهم، وأنا واحد منهم، فباسم من قضى نحبه منهم، وباسم من مايزال مثلي يبتعد من مهده ويقترب من لحده أوجه لهذه الدولة الصغيرة في مساحتها، القليلة في شعبها، الكبيرة في أعمالها أحر عبارات الشكر، وأصدق كلمات الاعتراف…

لعل قرائي أو المستمعين لي يلاحظون على ما آكتبه أو ألقيه حرصي على الإشارة إلى المراجع، وإن أرجع ذلك إلى هذا الأستاذ الفاضل، الذي أترحم عليه إن كان ممن قضى نحبه، وأدعو له بكل خير إن كان مايزال يكدح في هذه الحياة…

 

ذكر يوما أن مساحة الجزاذر مائتي ألف كلم مربع، فلم أملك نفسي وصحت: يا أستاذ أين ذهب المليونان من الكيلومترات المربعة؟ حدجني الأستاذ بنظرة ترمي بشرر، وقال: هذا ما هو مدوّن في الكتاب المقرر. (كانت المعلومة مترجمة عن الكتب الفرنسية التي كانت تعتبر الجزائر هي القسم‮ ‬الشمالي،‮ ‬وتسمي‮ ‬الباقي‮ ‬الصحراء‮).‬

قلت له: والله العظيم إن مساحة الجزائر تفوق المليونين والمائتي ألف كيلومتر مربع… قاطعني قائلا: هل تريد أن تقنعني بـ”والله العظيم”، ليس في العلم “والله العظيم”، هناك دليل، فأت به إن كنت من الصادقين، فإن لم يكن فلا اعتراض… قلت له: هل تأذن لي بالخروج لإحضار‮ ‬الدليل‮ ‬الذي‮ ‬يؤكد‮ ‬قولي؟‮ ‬فأذن‮ ‬لي‮.. ‬

أسرعت الخطى إلى مبيت الطلبة، وما هو من القسم ببعيد، فأخذت كتابا (نسيت إسمه) من خزانتي، وعدت بأسرع مما ذهبت، وأريت الأستاذ الرقم الحقيقي لمساحة الجزائر، فرسم الأستاذ ابتسامة على شفتيه (وقليلا ما يبتسم) وقال بلهجته المصرية: آهو كده.. لا بد في أية قضية علمية من‮ ‬دليل‮ ‬قاطع،‮ ‬وبرهان‮ ‬ساطع،‮ ‬وكان‮ ‬هذا‮ ‬الدرس‮ ‬من‮ ‬أهم‮ ‬ما‮ ‬تعلمته‮ ‬في‮ ‬حياتي،‮ ‬واجتهدت‮ ‬لتعليمه‮ ‬لمن‮ ‬قدّر‮ ‬اللّه‮ ‬لهم‮ ‬أن‮ ‬يتلقوا‮ ‬العلم‮ ‬عني‮..‬

وذات يوم كان الدرس في مادة التاريخ هو تاديخ الجزائر المعاصر، ذكر حوادث “قرية” سطيف، فما كان مني إلا أن هويت على الطاولة بقبضة يدي، وقلت: يا أستاذ إن سطيف مدينة أكبر من بعض العواصم في المشرق.. ثم إن هذا المقرر فيه بخس لدول المغرب العربي، (كان المقرر هو تاريخ الوطن العربي المعاصر) والدليل على ذلك هوأن ثورة 1919 في مصر، وما هي ٌلا مظاهرة خصص لها عشرات الصفحات.. بينما ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب التي دامت عدة سنوات ضد دولتين، وألحق بهما عدة هزائم رغم البون الشاسع من الطرفين لم يخصص لها إلا صفحات أقل‮ ‬من‮ ‬أصابع‮ ‬اليد‮ ‬الواحدة،‮ ‬واستبد‮ ‬بي‮ ‬الغضب‮ ‬فلعنت‮ ‬التاريخ‮.. ‬ولولا‮ ‬خوفي‮ ‬منه‮ – ‬وكان‮ ‬ذا‮ ‬بسطة‮ ‬في‮ ‬الجسم‮ – ‬لثنّيت‮ ‬بالمؤرخين‮.. ‬وأنهيت‮ “‬ثورتي‮” ‬قائلا‮: ‬والله،‮ ‬لن‮ ‬أقرأ‮ ‬التاريخ‮ ‬أبدا‮…‬

عجبت‮ ‬من‮ ‬امتلاك‮ ‬الاستاذ‮ ‬لأعصابه،‮ ‬ثم‮ ‬قال‮ ‬لي‮: ‬أنت‮ ‬الذي‮ ‬ستلقي‮ ‬درس‮ ‬الأسبوع‮ ‬القادم‮ ‬على‮ ‬زملائك،‮ ‬وهو‮ ‬استمرار‮ ‬لتاريخ‮ ‬الجزائر‮ ‬بعد‮ ‬الحرب‮ ‬العالمية‮ ‬الثانية‮.. ‬وذلك‮ ‬ما‮ ‬وقع‮..‬

وفي نهاية الدرس قال لي الأستاذ عُرابي: ستصير أستاذا في التاريخ.. وحقق الله -عز وجل- ما تنبأ به هذا الأستاذ الفاضل.. الذي أكرر ترحمي عليه وعلى جميع أشياخي إن كانوا ممن التحقت أرواحهم بعالمها الأسمى، وأدعو لهم بالصحة والعافية إن كانوا مايزالون يكدحون إلى ربهم‮ ‬كدحا‮.‬

وسلام على دولة الكويت الشقيقة التي لم تبخل علينا، ولم تمنن أو تستكثر واعتبرتنا كأبنائها، فوفرت لنا كلّ ما كنا في حاجة إليه للتفرغ لطلب العلم.. وكان ذلك منذ بداية الخمسينيات إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي.

وسلام‮ ‬على‮ “‬إخوان‮ ‬الصفا‮ ‬وخلان‮ ‬الوفاء‮” ‬من‮ ‬جميع‮ ‬الدول‮ ‬العربية‮ ‬الذين‮ ‬كانت‮ ‬تضمهم‮ ‬ثانوية‮ ‬الشويخ‮.. ‬أبقاها‮ ‬الله‮ ‬صرحا‮ ‬علميا،‮ ‬وقد‮ ‬حُوّلت‮ ‬إلى‮ ‬كلية‮ ‬من‮ ‬كليات‮ ‬جامعة‮ ‬الكويت‮..‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • خليفة

    السلام عليكم و رحمة الله
    دمعت عيناي بينما كنت أقرأ عمودكم إذ تأثرت بطريقة تعامل أستاذكم رحمة الله عليه في الدنيا و الأخرة ، حيث كان يتراجع عما هو مقرر في الكتب لمجرد أن تأتيه ببرهان يدمغ ما كتب.
    لو كانت ثلة من المعلمين في الوطن العربي بهذا السمو العلمي و الأخلاقي لصدقنا الله عز و جل في قوله بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "....لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا".
    والسلام عليك ورحمة الله و بركاته

  • محمد

    بارك الله فيك شيخنا الفاضل، أنا أتابع حلقات برنامجك "التاريخ عبرة" بشغف كبير، وما يزيدني سرورا هو اللغة السليمة والأفكار المتوازنة التي تطرحها من خلال مواضيعك، وأرى نفسي وأنا شاب جزائري من أسرة مجاهدة أكن كل البغض للمستعمر، وأجد في نفسيالشعور بالأخوة والمحبة للمسلمين وهذا ما أشعر به خلال سردك للأحداث التاريخية خصوصا إحياؤك للذكرى المئوية لاحتلال مغربنا الأقصى وثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله.
    شكرا لك مرة أخرى وحفظك الله ودمت شوكة في أعناق أبناء فرنسا.

  • ام كلثوم

    لايمكن ان تكون انت وحدك من يثنى على هؤلاء الاستاذة ودورهم المهم الذى لعبوه بعد الاستقلال فى تكوين التنشئة الجزائرية وتفعيل مادة الادب العربى التى بفضلهاحافظ الكثير من الجزائريين على لغة الضاداكون جاحدة اذا انكرت فضل المربين المصريين فى تعليمى وتنويرى فقد تتلمذت على يدهم فى جميع مراحل دراستى من الابتدائىالىالاكمالىالى الثناوى وحتى فى معهد تكوين الاستاذة وفى جميع المواد لذلك تاثرت كثيرا بهم ومازلت احتفظ بذكريات كتابية لهم لى وادعولهم ولبلدهم بالامن والاستقرار وزوال هذه الهمة ولسائر البلدان العربية

  • بدون اسم

    هذا هو العلم مثاقفة بين المشرق والمغرب
    تواصل فكري وتلاقح معرفيّ
    ليس هو صدام حضاري ولا تناقض معرفيّ
    ياله من عار أن يصدر من وزرائنا ومثقفينا ما هو في حقيقته إذكاء لحرب بين مشرق العالم الإسلاميّ ومغربه
    لماذا ينكر على بعضنا أنّه درس في السعوديّة وليس العيب فيهم وإنّما العيب في من أضاع العلم والعلماء في بلادنا؟!
    تحيّة وفاء لأستاذنا على وفائه، وعتاب لطيف له على أن هفا قلمه ذات مرّة بما فيه عيب وانتقاص لأصحاب العقال ومنهم الكويتيون وفيهم العلماء والأجلاء، وهل من عيب في العادات واللّباس؟!
    تحية أخرى

  • الورثلاني

    تابع
    الجاهل, الضائع الهوية, التعيس الذي يطلب السعادة في عبادة المال مثل حاكميه.
    واحسرتاه على ماض مضى و لن يعود و حاضر مر و مستقبل مظلم!

  • بدون اسم

    بوركت يا شيخنا المحبوب.
    اين نحن من ذلك الماضي اللذيذ الذي كانت فيه دولة مثل الكويت تتكفل بتعليم الشباب العربي!!! لقد اتت الراسمالية على الاخضر و اليابس. ضاعت الاخوة, ضاعت المحبة, لا احد يقدس العلم و لا احد يشعر بواجب نشره. لقد قتل الدولار كل ما في العرب من خصال دون ان يخرجهم من تخلفهم. كم كان جيلكم محظوظا يا شيخ ! نحن جيل ما بعد الاستقلال, جيل الانفجار الديموغرافي المشؤوم لم نعرف حرية التنقل و السفر و لم نعرف العلم و العلماء و لم نعرف المحبة و سهولة العيش. ضاع شبابنا في شوارع مكتظة ب"الغاشي"

  • تلميذ البشير بوكثير

    جميل ماكتبت يا أستاذ.
    هنيئا لك هذا الوفاء النادر لأساتذتك الكرام .

  • بدون اسم

    تقريبا نفس الكلام الذي قاله الشيخ كشك رحمه الله للشيخ ابي اسحاق الحويني لما اعترض على حديث ضعيف قال له( تعلم ثم اعترض) وهو الكلام الذي دفع بالشيخ ابو اسحاق الحويني لدراسة علم الحديث هذا ماسمعته من محاضرة للشيخ ابو اسحاق الحويني.

  • منيب

    ذكريات ممتعة...
    * استاذ عاقل حكيم و تلميذ شجاع مؤدب اعلم من استاذه المقصر في البحث