عبد الرحمن ابن العڤون
التبس الأمر على بعض الإخوة القرّاء، فظنوا أنني أخطأت في اسم الشاعر عبد الرحمن ابن العڤون، وذكرت بدلا منه عبد الكريم بلعڤون، الذي تحدثت عنه يوم الخميس الماضي، وظنوا أن هذا هو ذاك، وليس الأمر كذلك.
فأما عبد الكريم بلعڤون فهو من عرفتموه في الأسبوع الماضي؛ وأما الشيخ عبد الرحمن ابن العڤون فهو من مواليد سنة 1908 بوادي الزناتي، وقد توفاه الله الذي يتوفى الأنفس في سنة 1995.
حفظ القرآن الكريم، وبدأ يتعلم ما هو معلوم من اللغة والدين بالضرورة.. وبدت عليه ميول شعرية، ولكنه – كما قال – لم يكن شاعرا مطبوعا؛ بل كان أشبه بالخطيب السياسي، “هدفه المفضل هو تحريك العاطفة الوطنية، وإثارة غريزة الدفاع في المواطنين“. (ابن العڤون ..الديوان ص13)، وكان أول ما نشر في سنة 1929 في جريدة “النجاح” و“الشهاب” ..
إن هذا التوجه هو الغالب على شعرائنا، تحت ليل الاستعمار الفرنسي ووحشيته، فلم تكن تشغلهم عواطف الشباب عن القضية الكبرى، وهي قضية الدين المهضوم والوطن المكلوم، فتميز شعره “بالتضجر، والشكوى، والتألم.. واليأس ومعالم الأسى، والتمرد والانفجار، وتلك انعكاسات الظلم الاستعماري، ومضاعفات حمله الثقيل، التي كان يعانيها كل مواطن، لاسيما الواعي، ومن أعطي حظا من التفكير“. (الديوان 14) وكان معلمه في نظم القوافي هو الشيخ عمار مهري، الذي وصفه “بأستاذه الأكبر“، الذي توفاه الله – عز وجل– في سنة 1933.
انخرط الشيخ عبد الرحمن ابن العڤون في النضال الوطني عبر حزب الشعب الجزائري، وقد مسّته فرنسا بسبب ذلك بنصب وعذاب، ومن بين الجزائريين الشرفاء لم ينله مثل ذلك.
وعندما أصيب حزب “حركة الانتصار للحريات الديمقراطية” بالانشقاق، ونزغ الشيطان بين مناضليه سعى الشيخ عبد الرحمن – ممن سعوا – لرأب الصّدع، ولكن استع الرتق على الراقع، وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا“، فقد “نطق الرصاص، فما يتاح كلام، وجرى القصاص فما يباح ملام“، كما يقول الشاعر مفدي زكرياء.
التحق الشيخ عبد الرحمن بصفوف الثورة، وكلف بعدة أعمال في المشرق العربي، ثم استقر في الأردن ممثلا للثورة، ثم سفيرا للجزائر إلى أن عاد إلى وطنه في سنة 1964، ليعود إلى “الحبيب الأول” وهو التعليم، إلى أن تقاعد في 1973. وقد عين عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى.
ترك الشيخ عبد الرحمن ابن العڤون ديوانا سماه “أطوار“، ورسالة فقهية عنوانها “القول الفصل في تحديد النسل“، وكتابا في أجزاء ثلاثة عن القضية الوطنية من خلال مذكرات معاصر، ومذكرات.. و“من وراء القضبان“.
سعدت كثيرا بمعرفة الشيخ عبد الرحمن ابن العڤون، وقضيت معه أوقاتا مفيدة عندما كان يزورنا في الشركة الوطنية للنشر والتوزيع لمتابعة طباعة كتبه، ومما قصه عليّ – رحمه الله – أن القصر الملكي في عمّان أخبره أن الملك حسين يريد مقابلته؛ وذلك في أحد أيام صائفة 1962 مساء، بعد أن تنكسر حدة الحرارة.
قال الشيخ عبد الرحمن: تساءلت عن سبب هذه المقابلة، وفكرت، وقدرت فلم اهتد..
مثلت أمام الملك، فتبادلنا التحايا، وكان في لباس صيفي، ثم قال:
لا شك أنكم تتساءلون عن سبب دعوتكم؟
فعبرت عن التشرف بمقابلته ولو لغير سبب..تبسم الملك، وقال ما معناه:
كنا عندما كنتم تجرعون فرنسا “الصّبر” نفتخر بكم، ونتساءل في لقاءاتنا ومجالسنا: هل هؤلاء عرب؟ وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى “تفرقتم أيدي سبإ“، “ومزّقتم كل ممزق“، وصار بأسكم بينكم، وراح بعضكم يضرب رقاب بعض، ويتربص بعضكم ببعض، ويكيد بعضكم لبعض.. فتبين لنا أنكم عرب مثلنا.. وأنهى الملك المقابلة.
عندما كان الشيخ عبد الرحمن يقص عليّ هذه القصة تذكرت بيت الشاعر الجاهلي القائل:
وأحيانا على بكر أخينا إذا مالم نجد إلا أخانا
وقد تكون قصيدة المسماة “الجزائر تتضور” من وحي تلك المقابلة، وهي أكثر انطباقا على هذا العهد الرخيص التعيس، ومما جاء في تلك القصيدة:
حسبي الله، رجالي مالكم أفتدرون هوانا تنشدون
مالكم يا قوم؟ هذي لوثة وأتت بالخزي للشعب الأبي
شعبي العملاق في ثورته واقتناها حرة قانية
إنما النكبة منكم ظهرت تبذلون الخصم من أنفسكم
والذي إجرامه مستوضح وغبي يدّعيها مفردا
قد هويتم من معاليكم سبايا؟ بل إليه تستحثّون المطايا
عصفت بالعهد والسبع سنين فهؤلاء للأعداء عبد مستكين
طبقت شهرته الدنيا افتخارا وبراها في لظى الحرب انصهارا
أنت يا مسؤول! أنت يا دعيّ! بينما تبذلون إخواني ابتعادا
عنصري، ساذج، مستهتر وعظامي بجد يفتخر..