-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عروبة‭ ‬أقل‭.. ‬عَوْربة‭ ‬أكثر

عروبة‭ ‬أقل‭.. ‬عَوْربة‭ ‬أكثر

ليس أمريكيا من لم يضع علم أمريكا يمين بابه، وليس أمريكيا من لا يقول كلّ صباح “اللهم احفظ أمريكا”.. ورغم أنّ عمر أمريكا لا يتعدى الخمسمائة سنة، فإنّ الأمريكان يتحدّثون عن هويّة لا يتردّد المفكّر المنفلت جدّا صامويل هنتنغتون في وصفها بقوله “إنّ أمريكا وُلدت لتموت، أكثر من أيّ أمة أخرى”. مع التأكيد على أنّ أمريكا “قادرة على تأجيل فنائها وإيقاف تفسخها بتجديد إحساسها بالهوية الوطنية..”. واشتهر الكاتب بات بيوكانان المرشّح لرئاسة الولايات المتحدة 1996، بمقولته: “لم تعد أمريكا وعاءَ ذوبان، وصحنَ سَلَطة، بل وسط السَّلَطة، يزداد الزّيتون الأسود والفول الأسمر” كناية عن الجنسين الزّنجي واللاتيني.. وربّما هذا ما يفسّره سيطرة البيض (الإيرلنديين) على البيت الأبيض إلى أن بلغت الهويّة درجة من النضج تسمح بوصول، سياسي مثل أوباما، لا هو أبيض ولا أسود، لا مسلم ولا مسيحي، لا صقر ولا‭ ‬حمامة‭.. ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬أمريكا‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬تتأسس‭ ‬هويتها‭ ‬على‭ ‬المواطنة،‭ ‬باعتبارها‭ ‬قيمة‭ ‬مكتسبة،‭ ‬قويّة‭ ‬لدى‭ ‬الآخر،‭ ‬هشّة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الذات،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فلكلّ‭ ‬أمّة‭ ‬هويّة،‭ ‬ولكلّ‭ ‬هويّة‭ ‬أزمة‭.‬

ولعلّ من فضائل العولمة أنّها كلّما ضغطت على الهويّات “النائمة”، خرج البعبع من قمقمه ليتنصّل من الحداثة والعصرنة ويلبس عباءة التاريخ واللغة والتراث ويستنطق المقابر.. وأمثلة ذلك تتجلّى في أمريكا اللاتينية التي عاد فيها الحكم إلى أبنائها الأصليين من قبائل الأنكا‭ ‬والأزتيك،‭ ‬الذين‭ ‬ارتدوا‭ ‬أزياءهم‭ ‬العتيقة،‭ ‬وخاطبوا‭ ‬شعوبَهم‭ ‬بلغات‭ ‬ميّتة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬شفا‭ ‬حفرة‭ ‬من‭ ‬الانقراض‭..‬
ويكفي أنّ شبكة الأنترنيت تحوّلت اليوم إلى مختبرات لبعث الألسنة واللهجات الميتة، وضخّ دم التكنولوجيا في أبجديتها وألفاظها، إذ تشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 500 لهجة مستخدمة في التواصل عبر الشبكة العنكبوتية..
أمّا أوروبا فإنّ أمرها يأخذ بعدا آخر، إذ تأخذ فيها الهويّة مستويين، الأول وطنيّ، والثاني أوروبي، أي أنّ منطق “الأوْرَبة” فرض هويّة ذات منطلقات اقتصادية قبل أن تكون ثقافية أو سياسية. بمعنى أنّ المصلحة هي التي تبني الهوية، ولا غرابة أن يتحدث ساسةُ أوروبا عن الفضاء المفتوح، والدستور الواحد، واستثمار التنوّع اللغوي والثقافي، في التخلص من النمطية، بالرّغم من تحفظ بلدان من المجموعة الأوروبية، مثل فرنسا التي تركّز على مسألة الاستثناء الثقافي، باعتبار اللغة الفرنسية غير قابلة للمساومة، أو كما يقول المفكر الفرنسي جاك أتالي: “الشيء الوحيد الذي يعطي تعريفًا مستديما لهُويّة الأمةّ، هي لغتها، وثقافتها، وطريقة تفكيرها وانخراطها في العالم”. وقبله خاطب الفيلسوف يوهان فيخته الأمة الألمانية في العام 1807 بقوله “إنّ الذي يفقد لغتَه يمزّق الخيط الذي يصله بالأجداد، ويفقد معها حلقات ماضيه، ويشعر بفجوة عميقة حقيقية في تطوّره، ينقطع عن أصله، لأنّ اللّغة الأصيلة هي الحياة، ولأنّ الأمم المغلوبة التي تفقد لغتَها تندمجُ وتذوبُ في جنس اللّغة الغالبة.. أيّتها الأمّة، أيها الألمان، استمرّوا في نومكم وتهاونكم، حتّى تفقدوا جنسيتكم ولغتكم. وإنّ أبناءكم هم الذين سيدفعون ثمن تهاونكم هذا، افْقِدوا أعزّ ما يملكهُ الانسان، الخُلق، وذوبوا في غيركم”. لكأنّ حديث فيخته لا يخصّ الألمان وحدهم، بل ينسحب على العرب، الذين كلّما رمّّم الآخرون هويّتهم، زادت الهوة في جسم الهويّة، وصارت كلمة عرُوبة تتراجع بفعل انتكاسات القومية، كفعل ثقافيّ وسياسيّ واجتماعيّ.. ألم يكفر الكويتيون بالعروبة بعد أن ابتلعتهم دبابات صدّام؟ ألم يتنصّل العراقيون من العروبة، واستعاضوا عنها بطائفيات منبوذة؟ ألم تُسْقِط كثيرٌ من النّخب العربية مصطلح العروبة من أدبياتها، بعد أن شعرت أنّ تيار العولمة لا يستثني أحدا، في لغته أو عرقه، وأنّ خطاب ساطع الحصري وأمثاله من منظري العروبة والقومية، لم يعد له مكان، وأنّ الأفضل هو تبنّي مفهوم جديد يمكن أن يطلق عليه “العوربة” يتأسس على القيم والثوابت التي تحقق الانتقال إلى مستوى النديّة مع الآخر، في اللغة والاقتصاد‭ ‬والمساهمة‭ ‬في‭ ‬المشترك‭ ‬الانساني‭..‬
والعوربة، تعني إعادة بناء الذهنيّة الكفيلة بالتغيير وتحقيق القيمة المضافة، ومثلما جاء في أحد خطب الرئيس بوتفليقة أمام جمع من المثقفين العرب في العام 1999 “نحنُ واعون أنّ دخولنا العولمة لا يكون فاعلا إن لم نبدأ  بالعوْرَبة.. والعوْربة تبدأ منكم وبكم”.
وإذا كانت أجيال اليوم، المتواصلة مع ثقافات العالم، باستخدام الوسائط التكنولوجية الجديدة، تبتدع لغة “العرب إيزي” ذات النكهة التقنية المختلفة، و”الفرانكو-أراب” لاختزال المسافة مع الآخر، ومناقشة القضايا المسكوت عنها في المجتمع العربي، فإنّ ذلك يعني أنّ بنيةَ ثقافيةَ‭ ‬جديدة‭ ‬قيد‭ ‬التأسيس،‭ ‬تقتضي‭ ‬التفاعل‭ ‬معها‭ ‬إيجابيا،‭ ‬ليس‭ ‬إقصاءً،‭ ‬ولكن‭ ‬إحصاءً‭.. ‬بمعني‭ ‬إدراجها‭ ‬ضمن‭ ‬أولويات‭ ‬الدّولة،‭ ‬في‭ ‬التكفّل‭ ‬بها‭ ‬وبحاجيات‭ ‬المجتمع‭ ‬الجديد‭..‬
إنّ ما يشبه “الكفر” بالعروبة أو الخروج من ملّتها، لا يعني وجود قطيعة مع الماضي القريب، أو أنّها إرهاصات ثورة على قيم منتهية الصلاحية.. (..) ولكنّها الحاجة إلى قراءة جديدة لواقع مختلف، ينبني على الحرية والابتكار وأدبيات المواطنة، وأحيانا على الرّفض والتمرّد، فليس هناك مجال للإكراه أو الإلغاء أو التضييق، إذ أنّ المجتمع يجدد نفسه، ويعيد صياغة ألفاظه، ومنها العروبة، التي تأخذ بُعْدًا في الممارسة، قد نشهد فيه تجاذبات، بفعل المغربة، والجزأرة، والتونسة، والمصرنة، والسّودنة، والخلجنة، واللبننة.. إنّما تنتقل إلى مستوى العوربة، في القضايا ذات القيمة الاستراتيجية والحيوية المتصّلة بمصلحة الأمة العربية ومصيرها، لأنّ حالة الانجذاب إلى هذه القضايا بدت جليّة في المنتديات الإلكترونية، ونقاشات الفايس بوك، وقدرة المواطن العربي في صناعة إعلامه الخاص الذي يبث فيه هواجسه وأفكاره وقناعاته، مما حقّق التفافا واسعا حول القضايا الحساسة، كما كان الشأن بالنسبة للرسوم المسيئة التي نتج عنها انهيار معنوي للدنمارك.. وكذا التعبئة الشعبية، إلكترونيا، لبلوغ أهداف انتفاضات الشارع العربي، في زمن فكّكت فيه آلة التكنولوجيا سلطة الإيديولوجيا..
بلغة فيها شيء من الديماغوجية، يمكنني القول، إنّ مفكري الغرب، وكذا نوستراداموس، يعترفون أنّ “أوروبّا”، ستصبح بعد أقل من خمسين عاما “عوروبّا” كونُ العربية ستنتشر في تلك الديار التي غادرتها في العام الذي اكتشفت فيه.. أمريكا. فهل في ذلك نبوءة بانتعاش.. العوربة‭ ‬النائمة‭ ‬قليلا؟‭..‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!