الرأي

على الأرض السورية ترسم خرائط العرب السياسية

صالح عوض
  • 1087
  • 5
ح.م

لم تكن الرايات البيضاء التي رفعتها قوات داعش في الحجر الأسود ومخيم اليرموك إلا الإعلان الواضح على انكسار موجة المجموعات المسلحة عابرة البلدان وموتها في خضم الصراع الحاد بين إرادات إقليمية ودولية لتتكشف لنا موجات أخرى من العدوان الغربي وبشكل سافر لترسيم وقائع على الأرض من شأنها رسم خرائط سياسية للمنطقة بأسرها.
عندما أعلنت المؤسسات الصهيونية عن عدد الذين تلقوا علاجا من قوات النصرة في المستشفيات الصهيونية، كان الأمر صادما للكثيرين إذ أن عدد 20 ألف شخص ليس بالأمر الهين، ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل هناك اعترافات صهيونية عن توغلات عديدة وفي فترات متلاحقة قامت بها قوات صهيونية، خاصة في عمق التراب السوري لتوفير غطاء لوجستي لبعض المجموعات المسلحة.. والأمر حساس تماما إذ أنه يتعلق بالجنوب السوري، حيث هضبة الجولان وخط المواجهة المسلحة بين الدولة السورية وجيش الاحتلال السوري، وهنا وجدت المؤسسة الأمنية الصهيونية فرصتها في تشكيل حزام أمني يكون فاصلا عن الجبهة، ووجدت في قوات النصرة ضالتها وأصبحت هذه الساحة ميدان اشتباك وقتال سري بين قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية والسورية لتطهير الحزام الأمني والمعركة مرشحة للتوسع، حيث يتم إقامة منطقة عازلة تشمل الجولان حتى السويداء، يكون لها أهمية استراتيجية لأمن الكيان الصهيوني..
وفي شرق الفرات ومنطقة التنف تتركز قوات أمريكية لتكون قاعدة انطلاق للقوات الأمريكية والمستشارين الأمريكان لدعم الانفصاليين الأكراد في محاولة لشق شرق الفرات عن الدولة السورية، وذلك لقربها من حقول نفط محتملة في المنطقة، حسب ما كشفت أبحاث جيولوجية.. وفي حين تصدر رسائل متناقضة من البيت الأبيض الأمريكي حول طبيعة مهمة هذه القوات إلا أن الإشارات واضحة أنها مسألة ابتزاز للسعودية ودول الخليج كي يحقق الأمريكان من صفقة ما أقصى ما يمكن من الأموال وابتزاز الروس والسوريين في آن واحد..
وفي شمال سورية لازال الأتراك يحتلون عفرين بعد معارك ضارية مع الأكراد الانفصاليين، وقد جلبوا معهم قوات الجيش الحر ومجموعات مسلحة أخرى.. وكأن الأتراك يعملون على تغيير ديمغرافي لسكان المنطقة الحدودية لقطع التواصل بين أكراد سورية وأكراد تركيا، ومن غير الواضح كيفية انتهاء العملية، رغم مايبدو من تفاهمات روسية تركية في هذا الشأن.. وهنا لابد من تدبر محاولات فرنسة للتدخل في شمال سورية لمصالح استراتيجية تعتقد أنها صاحبة الحق فيها، الأمر الذي أوجد اشتباكا كلاميا يمكن أن يتصاعد بين فرنسا والأتراك.
إذن نحن أمام ثلاث مناطق تقتطع من سورية لتشكيل وقائع على الأرض تمهد لخطوات استعمارية جديدة لانجاز أهداف استراتيجية ثلاث مناطق من الجسم السوري تعمل إسرائيل وتركيا وأمريكا على اقتطاعها وتغيير معالمها السكانية، إما بتغيير ديمغرافي كما في عفرين أو بتغيير في الولاء والتوجه والوظيفة، كما يحصل في الجنوب السوري أو بإيجاد قاعدة أمنية عسكرية أمريكية كبيرة كما في شرق الفرات.
هذه جملة تحديات عاجلة على الأرض تشترك مع جملة تحديات إقليمية ودولية تدخل الصراع في قاعات التسخين والتوتير ستستمر حتى يتسنى لأصحاب العقل وضع حد له قبل أن تنفلت الأمور لحرب عالمية ثالثة كادت تشتعل شرارتها قبل أيام.. ومن الواضح أن كل قطعة من القطع الجغرافية الثلاثة له أهمية خاصة ووظيفة خاصة والقصد منه جميعا منع التواصل بين العراق وسورية ومنع التواصل بين فلسطين وسورية ومنع التواصل بين لبنان وسورية ومحاصرة سورية شمالا بتدخل تركي سافر في الأرض السورية..
وتكريس هذا الواقع إنما هو لتقوم مجموعات الإرهاب وبغطاء أمريكي صهيوني فرنسي بأدوارها المطلوبة في العراق وسورية ولبنان وتصدير العنف المسلح للمنطقة كلها، بل وللعرب جميعا والمسلمين قاطبة.. وما يتم الآن من إعادة تأهيل للمجموعات المسلحة في التنف وشرق الفرات وجنوب سورية يفسر الإصرار الغربي الأمريكي والفرنسي كما الصهيوني على فرض مناطق عازلة محمية.
إلا أن بروز المعركة على وجهها الحالي يسهل المهمة على الجيش السوري والشعب السوري، حيث يتوّحد الضمير الوطني حول ضرورة طرد المحتل الأجنبي، وستجد سورية في ذلك اسنادا عربيا ودعما من أكثر من جهة رسمية وشعبية، بل وحتى داخل محور الشر: “أمريكا وفرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني”.. ولعل المعارضة للموقف البريطاني والفرنسي بلغت مدى بعيدا ومؤثرا، وسيجد الساسة الفرنسيون والانجليز أنفسهم أمام مساءلات قد تطيح بأحزابهم، كما أن ترمب يعاني من تخبط أظهر المؤسسة الأمريكية بما لايليق بدولة هي الأعظم في العالم، حيث تحوّل رئيسها إلى مهرج سمسار بلا خُلق وليس له موقف ولا سياسة محددة المعالم، ما ألحق بسمعة الولايات المتحدة ضررا فادحا.
الأن الجيش السوري ومجموعات المقاومة الشعبية السورية والعربية ستجد فرصتها في ملاحقة الاحتلال الأمريكي والصهيوني وستقدم الولايات المتحدة ثمنا بالغا لفعلها العسكري، الأمر الذي يحاول تداركه الساسة الأمريكان باستبدال جنودهم بالمليشيات المسلحة كما تم طرحه من قبل ترمب على السعوديين..
لن يصمد السعوديون والمليشيات المسلحة أمام قوى المقاومة في شرق الفرات وستكون عمليات عسكرية حاسمة تنهي الأزمة خلال فترة قياسية، بعد أن تمرس الجيش السوري على المواجهات والحروب طويلة النفس.. وأما الجبهة الجنوبية فهي الجبهة الأكثر جذبا لقوى المقاومة وستجد إسرائيل نفسها في مرحلة ما في مواجهة مباشرة مع الجيش السوري وقوى المقاومة التي تنتشر في المنطقة في كل محيط فلسطين.
لن تستطيع أمريكا وفرنسا وبريطانيا من خلال أدواتهم المباشرة أو غير المباشرة رسم خرائط العرب والمسلمين، رغم كل الأذى الذي لحق بسورية، والفضل في ذلك يعود لانكسار هجمتهم وروحهم في سورية، واندحار المجموعات المسلحة داعش والنصرة من مسرح العمليات بشكل كبير.. وسيبدأ التحرك نحو استرداد شرق الفرات وعفرين وأدلب وكل التراب السوري، وهي معركة سيتوّحد فيها السوريون ويرتقون بأدائهم السياسي والأمني وتتماسك قوى مجتمعهم وصولا لسيادة الدولة على كل التراب السوري..
الأن تتحرك سورية بعد أن نجحت الدولة فيها بالاستقرار نحو الإعلان عن استعادة السيادة والتموّضع مجددا في مكانة تجعل منها رقما لا يمكن تجاوزه، ويكون هو من أعطى قوى دولية دورها ومنحها فرصة البروز والدخول في مواجهات السياسة الدولية.. أجل إنها الشام، حيث دوما تكون أرضا لصراع النفوذ العالمي، ولكنها الأن بارتباطها بفلسطين جغرافيا واستراتيجيا وتاريخيا بشكل خاص فإن انتصارها سيؤثر بشكل عضوي في صيرورة الكفاح الفلسطيني.. تولانا الله برحمته.

مقالات ذات صلة