الرأي

على النخبة أن تحسم الأمر!

محمد سليم قلالة
  • 3347
  • 17

ازداد تهميش دور النخبة والذكاء والإبداع في السنوات الأخيرة، وتعالت الكثير من الأصوات تقول أن لا قدرة لها في التأثير على مجرى الأمور، أو في المساهمة في تحديد مستقبل البلاد ورسم سياساتها العامة، سَخر من رموزها البعض وأهانها مسؤولون في أعلى هرم السلطة، بل وأحطوا من شأن كل صاحب فكرة قادر على النقاش أو رافض لمسايرة منطق الجهل، وأحيانا حاربوه إلى حد الإقصاء أوالإلغاء، واليوم يريدون تكريس هذا الاتجاه بأن يفرضوا انتصار الجهل على العلم، واللامنطق على المنطق واللامعقول على المعقول، وإلا فإنهم مستعدون للدفع بالبلاد نحو المجهول.

لقد حان الوقت لمنع الجهل يحكم العلم، وحان الوقت لمنع الرداءة تحكم الكفاءة، وحان الوقت لمنع من لا يحسنون الكلام يحكمون من يحسنونه، وحان الوقت لمنع من لا أخلاق لهم يحكمون ذوي الأخلاق العالية، وحان الوقت لمنع اللاأدب يحكم الأدب، وحان الوقت لمنع الفاسد يحكم الصالح، وحان الوقت لإعادة الأمور إلى نصابها.

ليس من المبرر تماما أن  تبقى الأمور على حالها ضد المنطق وضد العقل، لم يعد من الممكن اليوم إيجاد تبرير لما لا يبرر، هل البلاد هي ملك لمجموعة بعينها حتى تبقى في الحكم أبد الآبدين. هل ليس من حق الشعب الجزائري أن يختار من يشاء في الحكم؟ هل ليس من حقه أن يعرف أين وكيف أُنفقت أمواله، هل مازال عاجزا عن أن يعرف أن الطريق السيار لا يمكنه أن يكلف أبدا تلك المبالغ الطائلة التي أُنفقت من أجله؟ وهل مازال عاجزا عن أن يعرف سر إنجاز مشروع نقل ماء غير صالح للشرب من عين صالح إلى تمنراست؟ وهل مازال عاجزا إلى درجة تصديق أنه تم إنجاز أكثر من مليون ونصف مليون وحدة سكنية؟ وهل هو يعيش في كوكب آخر حتى يصدّق أن نسبة البطالة هي أقل من 10 بالمئة؟ وهل هو متخلّف عقليا حتى يصدّق أنه يمكن لشخص أو حزب مهما كان أن يجمع 4 ملايين توقيع في ثلاثة أيام؟ وهل فقد منطقه وعقله وصحته وشبابه ليقبل برئيس مريض يحكمه؟

يبدو أن هناك فئة مازالت تؤمن وإلى اليوم بأن الحيلة تغلب الذكاء، والجهل يغلب العلم، وأن هؤلاء الذين يُسمون أنفسهم “نخبة” ليسوا سوى أولئك المعلمين والأساتذة، والشعراء والفنانين والأطباء والمهندسين، ورجال القانون والإعلام والطلبة والعمال والفلاحين الأذكياء، بل وكل من قرأ وكتب بدء من قوله تعالى “قل أعوذ برب الفلق” التي سخر منها أحدهم واعتبرها شعرا. وما دامت النخبة لا تمثل سوى هؤلاء ــ يقولون ــ فلا حاجة لنا بها، لأننا نعول على الشعب والشعب معنا، في جهل مركب تام للتمييز بين من تكون النخبة ومن يكون الشعب.

بالفعل لقد غاب على هؤلاء أن النخبة اليوم أصبحت هي الشعب. لقد غاب على هؤلاء أن ما حدث من تحول كبير في المجتمع الجزائري منذ الاستقلال، جعل النخبة تصبح ممثلة في كل بيت في الريف أو المدينة، وفي كل قطاع من الصناعة إلى الفلاحة إلى البناء إلى الخدمات، وأن تهميشها و”حڤرتها” مثل الشعب، جعلها تزداد ارتباطا به، ولعلّهم لم يدركوا أن التبدلات الحاصلة في مستوى توزيع المعرفة (من خلال التعليم) ستؤدي بالضرورة إلى تبدلات في مستوى توزيع السلطة (الحكم) على حد تعبير السوسيولوجي الأمريكي الشهير “ألفن توفلر”، بل لم يدركوا أن سياسة ديمقراطية التعليم ومجانيته وتعميمه التي أقرّها منذ الاستقلال رجال مخلصون للوطن والشعب، قد أدت بالفعل إلى إنشاء هذا الجيل الذي من بينه (المعلمون والأساتذة والأطباء والمهندسون والقضاة والمحامون والطلبة والصحفيون، والعمال والفلاحون المتعلمون…الخ)، الذين أصبحوا محل سخرية الآن يوصفون بـ”الدراويش” و”المساكين” لأنهم متعلّمون، بالرغم من أنهم في الواقع وبحكم طبيعة التطور الاجتماعي، هم من ينتظرهم إعادة توزيع السلطة وهم أهل الحكم في المستقبل.

هذا التطور الطبيعي للأشياء لا يريد أن يعترف به البعض، ويصرون على الاستهتار به والسخرية منه، إنهم مازالوا يتندّرون بالقول: “زعموا أن النخبة ستحكم”.

دعهم يتندّرون، ودعهم يعتقدون بأن الشعب الجزائري مازال كسنوات مضت يؤمن أنهم بالفعل يشبهون الحكام الذين صهرتهم الثورة، وقادهم الصدق إلى النجاح حتى من غير علم أو تعليم.

دعهم يعتقدون أن الذين يتابعونهم في القاعات المغلقة حيث تجري الحملة الانتخابية، أو يتابعون خطبهم وتحاليلهم عبر وسائل الإعلام، أو يعلقون على نوادرهم وزلاّت لسانهم، أو يقذفونهم بالحجارة أو الياغورت هنا أو هناك، هم رعاع لا مستوى ثقافي لهم، ولا كفاءة لديهم في أي من المجالات، دعهم يعتقدون أن من يحيطون بهم من مستشارين وكفاءات ذات مستوى عال هم أدوات يسيرونها كما شاؤوا، “نخبة” لا حول ولا قوة لها إلا كما يريدون، دعهم يعتقدون ذلك  حتى إذا ما حانت ساعة الحسم، وأُعلن القرار سيكتشفون طبيعة الوهم الذي كانوا فيه.

ولا شك أن هذا القرار سيتخذ، إن من النخبة التي هي الآن تشكل جزءا كبيرا من المجتمع ولها كل التأثير فيه، في العائلات والأحياء والمدن وحتى القرى، أو من النخبة التي هي الآن تمتلك بعض القرار أو هي قريبة من سلطة القرار، التي لم يعد أمامها سوى خيار واحد أن تحسم الأمر، وكلاهما يستطيع أن يصنع مستقبل الجزائر.

لم يعد مقبولا اليوم من أي جزائري يملك جزء من المعرفة، أن يسمح بأن يضيع منه ذلك الجزء من السلطة الذي يستحقه ليذهب لمن لا يستحق.

علينا جميعا أن ندرك أننا بدأنا نعيش مرحلة تحول حقيقي في السلطة ببلادنا، من سلطة تعبّر عن حكم مجموعة تعتقد أن الشعب جاهل ـ يتبع من يطعمه ـ (على حد قول أحد المسؤولين) إلى سلطة تعبّر عن غالبية تعتقد أن الشعب أصبح متعلما لا يتبع إلا من يقنعه ببقية مسار الطريق.

ولا نشك أن ما نلاحظه اليوم، من انخراط واسع لأفراد النخبة في العمل السياسي، ومن مواقف واضحة للغالبية منهم بشأن مستقبل البلاد، من أي مشرب فكري كانوا، إنما هو المؤشر الحقيقي أن زمن النخبة الواعية المسؤولة قد حل.

لقد تأكد لي هذا في أكثر من موقع انتخابي حضرته، حيث وجدت أن الوجوه قد تبدلت، وأن عدد الجامعيين والمتعلمين الذين يشاركون في العمل السياسي أكثر من غيرهم، وعدد الأميين الذين يقودون المسيرة قد بدأ في التقهقر. وبرغم بقاء بعض رموز “الجهل” ممن يحركون المال الفاسد، ويتحركون به بارزة، وبرغم بقاء فئة من الناس تحيط بهم لتحقيق مأرب أو غاية من الغايات، إلا أن الطريق الذي يسلكون بات قصيرا والكل أصبح يعلم قرب نهايته، فقط هي النخبة في حاجة اليوم، إلى أن تتخذ القرار، بل وأن تحسم القرار، وبإمكانها ذلك إذا أرادت.   

مقالات ذات صلة