-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عمّي حسين مقيدش.. خادم سكان مدينة باتنة

عمّي حسين مقيدش.. خادم سكان مدينة باتنة

تُعرف المدن بأعيانها ووجهائها، وهم أسياد القوم ونخبة من الفضلاء الذين يتقدمون الصفوف، ويجلسون في صدور المجالس. وإليهم تعود الكلمات الفصل والرأي الختامي فيما ينظرون فيه من خلافات ناشبة ونزاعات ثائرة وخصومات قائمة بين المتعارضين. وهم أعلامٌ معروفة ومنارات مقصودة ووجوه منشودة من طرف كل من يحتاج إليهم إن أصابه ضيق، أو سدت أمامه سبل الوصول إلى حل مشكلة واجهته وأرّقته..
إلا أن الحياة الاجتماعية بتعقيداتها وتشابكها، وفي أي زمن، لا تقوم على هؤلاء تحديدا وتقصيرا حتى وإن عظمت عطاءاتهم، وجمعوا من اعترافات الفضل كنوزا، وادّخروا منها مكايـيل تُقدَّر بأطنان. وإنما هناك طبقة من الناس البسطاء يعيشون متوارين، ولكنهم يقدِّمون خدمات عظمى في كنف الهدوء التام. وفي كل مدينة يوجد مئات من الخدّام الفضلاء يؤدون أعمالا لو يتوقفون أو يتعطلون عنها يتسببون في عطب حياة الناس واضطرابها وإرباك دوران عجلتها. وفي مدينتنا باتنة، ومن هذه الطائفة، يرد اسم عمي حسين مقيدش الذي بارح مسرح الحياة منذ أيام قليلة عقب رحلة مرَضية مقلقة، وبعد أن اقترب من قرن طرفي العقد التاسع من عمره.
عمّي حسين هذا ساعي بريد فريد في انضباطه، ومتفرّدٌ في التزامه حتى مع ارتداء بدلته وقبّعته اللتين لا تفارقانه. وهو من القليلين الذين أعطوا لغيرهم من عصارة جهدهم وساعات وقتهم من دون منٍّ أو حساب. ويلزمنا الاعتراف أن نقابل جميله بالشكر والتقريظ والذكر الحسن.
لا أظن أن ثمة من أبناء مدينتنا القدامى الذين لا يعرف هذا الرجل الوديع والأمين معرفة مباشرة أو غير مباشرة، فهو وجهٌ من وجوه المدينة الذي تعامل معه الكبير والصغير والغني والفقير والشيخ والعجوز. ويوم كانت مدينة باتنة صغيرة ومحصورة في عدد قليل من الأحياء، كان سكان كل حي ينتظرون قدومه ولو مرة في الأسبوع. وكان كل واحد منهم يترقب أن يسلمه رسالة أو حوّالة أو إشعار ورود طرد إلى مكتب البريد أو برقية قادمة من بعيد تزفّ له خبرا تحمله سواء أكان مفرحا أو محزنا. وكنا نحن الصغار المتمدرسين في المرحلتين الإعدادية والثانوية نتلهف إلى مجيئه مرة واحدة في نهاية كل سداسي حتى نتسلم منه كشوف علاماتنا الدراسية.
لم يكن عمي حسين صاحب القامة المنحنية قليلا والوجه الوسيم الذي لا يبارحه البشر والطلاقة والبشاشة، وتندفن في بشرة إهابه سمرةٌ خفيفة وتزيِّنه شنباتٌ صغيرة يعفو عنها ويصفِّفها بطريقته الخاصة، ويمتلك عينين صغيرتين مندسَّتين في محجريهما، لم يكن يتوقف عن نشر الابتسامة في وجه كل من يصادفه في طريقه. وكانت ابتسامته هي بمثابة تحيته في كل الأوقات التي يوزعها على كل من يقابله عن قرب. وكان رجلا خلوقا ومؤدَّبا يُحسن التعامل مع كل الناس في لباقة ومجاملة.

يتصف عمي حسين بالتكتم وإخفاء أسرار الناس، وكان موضع تقدير عند رؤسائه الفرنسيين في حضوره وفي غيابه، واستطاع أن يعيش مبجَّلا بينهم. وأثناء سنوات الثورة التحريرية، استغل ثقتهم فيه، وجعل محفظته أداةً لنقل رسائل المجاهدين من نقطة إلى أخرى بعيدا عن أي شبهة أو شك.

أذكر أننا في السنوات الأخيرة من التعليم الابتدائي، قرأنا نصا في كتاب القراءة يتحدث فيه كاتبُه عن ساعي البريد، وأظن أن كاتبته هي الأديبة الفلسطينية “مي زيادة” صاحبة الأسلوب النثري الأخاذ والآسر والتي تحسن زراعة كلماتها الرقيقة في الجمل التي تكتبها، زراعة لا يماثلها فيها سوى انتظام أزهار الربيع التي تنبت في أثلام الحقول المزروعة. وقد دققت في نصها البديع لوصف حقيبة ساعي البريد، وتعرضت إلى أصناف الرسائل التي تحملها يوميا حتى تودع بين أيدي أصحابها كأمانات يستلمونها منه. وكنت أرى، وقتئذ وبفضل عملية إسقاط ونمذجة جالت في ذهني، أنها تتحدث عن عمي حسين، وكدت أجزم أنه هو الشخص الموصوف بعينه. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت أرى في حقيبته الكبيرة السوداء التي يحملها بحزام جلدي طويل ومتين حملا جانبيا، ويضعها تحت أحد إبطيه مخزنا لأسرار الناس المكنونة.
لم يكن قرُّ شتاء مدينتنا القارس يُقعد عمي حسين عن العمل، ولم يكن حرُّها الملتهب في الصيف يُعجزه عن الحركة. وإنما كان يقضي فصول السنة باعتدالاتها وانقلاباتها في همَّة حركية لا تعرف التكاسل والفتور، فلا يبصَر إلا راحلا من حي إلى حي آخر، ومارا من شارع إلى شارع يليه، ومتنقلا في خفة من مسكن إلى مسكن يجاوره. وكان شديد الحرص على وضع الرسالة في يد صاحبها بنفسه حفاظا على تبليغ الأمانة. وكان في الأيام الممطرة يرتدي مئزرا طويلا وعريضا من الأسفل ومزوَّدا بقلنسوة واسعة يدس فيها رأسه. ولم يكن يغفل عن تغطية حقيبته بأحد جناحي مئزره غير النفوذ حتى لا يتسرب البلل إلى الرسائل المخبوءة فيها.
عندما توسّعت المدينة، وزاد عدد موزعي البريد، أصبح مجال اشتغال عمي حسين محصورا في الأحياء العريقة التي تشكّل وسطها. ومن سوء حظ حيِّنا أنه لم ينتدب إليه إلا من أتعب سكانه بعد ذهابه. ولم يكن انفصاله بعد الألفة الطويلة عند سكان بعض الأحياء التي تركها مريحا، وكم من مرة قصدوا إدارة البريد مطالبين بعودته إليهم، إلا أن إلحاحاتهم لم يُستجب لها.
وُلد الابن الوحيد حسين لوالده أحمد وأمه السيدة غنية اليامنة في العاشر جوان من سنة 1935م حسب سجلات الحالة المدنية. وبعد بلوغه السادسة من عمره، التحق بمدرسة الأهالي التي أصبحت، اليوم، تحمل اسم رائد المقاومة الشعبية الأمير عبد القادر. وقضى فيها ست سنوات ختمها بالحصول على شهادة التعليم الابتدائي التي أهَّلته للانتقال إلى التعليم الإعدادي. وبعد قضاء سنتين في الإكمالية القريبة من مدرسته الأولى، انقطع عن الدراسة مجبرا بسبب ظروف وقفت في وجهه، وعاكست إرادته وأبعدته عن رغبته.
لم يجد الشاب حسين من وجهة يوليها سوى الالتحاق بمركز التكوين المهني، واختار التخصص في مهنة والده، وهي البناء. وتخرّج بعد أن أتمّ الدورة التكوينية للموسم 1953/1954م لأول دفعة متقدما كل زملائه في الترتيب. وسمحت له رتبته وتزكية مكوِّنيه بالعمل في البلدية.
بمجرد أن أعلنت دار البريد عن أول مسابقة لانتقاء سعاة البريد، شارك فيها، وكان النجاح حليفه وحيدا. ولما علمت البلدية بأمره، حاولت إغراءه واسترداده للاشتغال في أحد مكاتبها، وتكليفه بمسك سجلات التقييد لجمال خطه، إلا أنه رفض.
يتصف عمي حسين بالتكتم وإخفاء أسرار الناس، وكان موضع تقدير عند رؤسائه الفرنسيين في حضوره وفي غيابه، واستطاع أن يعيش مبجَّلا بينهم. وأثناء سنوات الثورة التحريرية، استغل ثقتهم فيه، وجعل محفظته أداةً لنقل رسائل المجاهدين من نقطة إلى أخرى بعيدا عن أي شبهة أو شك.
بعد قضاء نحو أربعين سنة في العمل، والصبر على رتابته الثقيلة، ذهب عمي حسين إلى التقاعد بنفس مرتاحة وقلب راض. ولكن علاقته بالناس لم تنقطع، إذ أصبح مسكنه مزارا مقصودا من طرف معارفه الراغبين في كتابة رسائلهم وتحرير شكاويهم، وكان يلبِّي طلباتهم بالمجان.
من يستمع إلى كلمات الثناء الرائعة والرائقة التي خص بها عمي إسماعيل سلطاني صديقه وزميله عمي حسين في العمل لمدة عشرين سنة وهو يسترجع ذكرياته معه في حسرة وشدة حزن يتمنى لو كان حديثه يشمله، ويعرف أن الفقيد رجل من طينة الكبار النادرين ومن شاكلة الأسياد الذين خدموا غيرهم عن طيب خاطر وبلا تأفُّف أو تذمُّر أو ضجر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!