الرأي

عن يوغورطا..

عثمان سعدي
  • 10093
  • 21
ح. م

كان يعمل أكثر من الآخرين ولا يتكلم عن نفسه إلا نادراً – سالوست

  أقيم في عنابة في شهر أغسطس 2016 ملتقى عن البطل النوميدي يوغورطا شارك فيه مفكرون جزائريون وتونسيون وفرنسيون وإيطاليون وألمان، وأود بهذه المناسبة أن أقدم للقراء نبذة مختصرة عن هذا القائد الكبير.

 ثار يوغورطا على الرومان مخالفا رأي جده مِسَنْ سَنَّا الذي سماه الرومان (ماسينيسا) الذي كان حليفا للرومان مساهما في تدمير قرطاج ــ الإمبراطورية الكنعانية الأمازيغية ـــ سنة 146 ق.م. ثار يوغورطا سنة 112 قبل الميلاد (أي بعد 32 سنة من وفاة جده ماسينيسا)، واستمرت ثورته سبع سنوات حتى سنة 105 ق. م، وإلى القراء خلاصة ثورته.

   * في سنة 112 ق. م قام بهجوم مباغت على قِرْطا (قسنطينة)، وقتل أميرها أدهر بعل، وانتقم من الرومان أشد انتقام بأن قتل جنود الحامية الرومانية، والتجار الرومانيين المسيطرين على التجارة في قرطا، والكولون الرومان الذين أعطاهم الأمير التابع أجود الأراضي، وأعاد الوحدة السياسية لنوميديا، ونسف بذلك سائر الجسور مع روما، وراح يعد لخوض حرب طويلة مع المستعمر، وضع يوغورطا حدا لسيطرة التجار والكولون المزارعين الرومان على اقتصاد نوميديا، التي بدأت بغرس مخالبها منذ عهد جده مسنّ سنّا، والتي استفحلت في عهد عمه مكيبسا، وبرهن بذلك عن إخلاصه لشعبه بل وللطبقات الكادحة فيه، بأن رفع عنها استغلال الاستعمار الروماني الكولوني الاستيطاني، واندلعت الحرب بينه وبين جيوش روما.

   * اصطدم يوغورطا بأوضاع المجتمع البربري الذي لم تكن لتساعده على الوحدة السياسية، فقد كان هناك نوعان من البربر: بربر البدو، وبربر المدن، فالأولون يفضلون الاستقلال في إطار قبائل مستقلة بدل الانضواء تحت لواء دولة مركزية، كان يوغورطا يحارب على جبهتين: جبهة الرومان، وجبهة التناقضات الداخلية للمجتمع البربري الذي لازال في معظمه يعيش حياة بدوية، وكانت العقبة التي اصطدم بها يوغورطا هي ضعف شبكة المواصلات الداخلية، وبقاء الكثير من القبائل في عزلتها، إما في الجبال أو بالصحراء، وهذا يفند الزعم الذي بالغ في نشره المؤرخون الرومان الذين أحاطوا مسنّ سنّا بهالة كبرى من المبالغات في إنجازاته لتوحيد المجتمع البربري، ونقله من حالة البداوة إلى حالة الاستقرار الزراعي، علما بأن الذي فعله مسنّ سنّا وابنه مكيبسا هو أنهما فتحا الباب للاستيطان الكولوني الروماني، وتأسيس الإقطاعيات الزراعية الرومانية المسماة “اللوتيفوندات”، وتحويل الكثير من الفلاحين الأمازيغ إلى أجراء أقنان الأرض في هذه المزارع، أو دفعهم إلى العودة للبداوة، بعد أن سلبت منهم أرضهم، وقد وجد يوغورطا دعما من قبائل المزالمة البربرية التي كانت تقيم في المناطق الممتدة من سوق أهراس فتبسة وحتى باتنة.

   * كانت خطة يوغورطا غريبة على العسكرية الرومانية، تتمثل في قيام الفرسان المدعمين بالمشاة، يقومون بهجمات خاطفة ثم يواصلون هجماتهم في قلب صفوف القوات الرومانية، فيقسمونها إلى أجزاء، ثم ينسحبون بعد ذلك تاركينها للمشاة، الذين يكملون ما بدأه الفرسان، حيث يجدون وحدات نصف مهزومة، وبهذه الخطة تمكن يوغورطا من إلحاق الهزيمة بثلاثة جيوش كبيرة تحت قيادة قادة رومان كبار هم:

   ـــــ كلا بورينوس باستا

   ــــ ميتلوس

   ــــ ماريوس 

      * فشل الرومان من هزم يوغورطا عسكريا، فلجأ القائد الروماني ماريوس إلى التآمر عليه، وأقنع بوكوس ملك موريتانيا الطنجية وأقنعه إن ساعده على أسر يوغورطا ستضم روما لمملكته نصف نوميديا، ولم يشك يوغورطا في بوكوس فقد كان صهره أي جد أولاده. استدعى بوكوس يوغورطا بحجة رسم خطة معه، حضر لقصره في طنجة، وفي القاعة فوجئ بحصار ماريوس وأسره واقتياده لروما، حيث وضع في زنزانة ومنع عنه الماء والغذاء إلى أن جفت فيه الحياة.

   * عبّر يوغورطا عن أسفه عن تدمير قرطاج معبرا عن عدم رضاه على جده ماسينيسا الذي تحالف مع الرومان لتدمير قرطاج، فقد روى عنه المؤرخ اللاتيني سالوست قوله: “إن الرومان قوم ظالمون، غاية في البخل وحب المال، يكنون العداوة لبني الإنسانية عامة، وحبهم للسيطرة جعل منهم أعداء الممالك والدول، تراهم الآن يتهالكون عليّ كما تهالكوا بالأمس على قرطاج، وسيظهرون عداوتهم بالغد لكل من له ثروة تهمهم” [1 ].

   * لقد لخص سالوست الصفات المميزة في شخصية يوغورطا فقال: “كان يوغورطا رجلا لامعا يتمتع بصلابة بنية بدنية هائلة، كان جميل المحيّا، يملك شخصية قوية عصامية، لم يفسح المجال للبذخ والترف والرفاه والميوعة أن تفسد شخصه، كان رياضيا يجيد ممارسة سائر أنواع الرياضة المعروفة في عصره، كان يسابق رفاقه الشبان، ويمارس معهم لعبة الرمح، وبالرغم من أنه كان ينتصر دائما عليهم فإنهم كانوا يجمعون على حبه، وفي جولات القنص كان يسبق رفاقه في طعن الأسود والحيوانات المفترسة، كان يعمل أكثر من الآخرين ولا يتكلم عن نفسه إلا نادرًا”

  * اسم يوغورطا عروبي، القرطماني في اللغة العربية معناه الفتى الحسن الوجه من الرجال، كما ورد في لسان العرب لابن منظور، وقد كان يوغورطا جميلا، انقلب القاف غينا فصار الغرطماني، والده اسمه مُسْتَعنْ بَعْلْ، أي المستعين بالله في الكنعانية الفينيقية التي كانت لغة نوميديا والدول الأمازيغية، والفاطميون استمدوا ألقابهم من هذه التسميات الكنعانية الفينيقية.

 

تفتيت المملكة النوميدية:

قررت روما، بعد قضائها على ثورة يوغورطا، تفتيت المملكة النوميدية، فقامت بتقسيمها إلى قسمين: القسم الغربي ضمّته إلى مملكة بوكوس مكافأة له على خيانته، والقسم الشرقي وعينوا على رأسه الملك غودا أخا يوغورطا، الذي كان ضعيف الشخصية بل ويعاني من لوثة عقلية، فأعيدت في عهده السيطرة الرومانية على اقتصاد نوميديا، فقد صدر قانون روماني يمنح لكل ضابط من الضباط الرومان الذين حاربوا في هذه الحرب 25 هكتارا لإقامة مزرعة عليها، تؤخذ من الفلاحين الأمازيغ، كما اتخذ مجلس الشيوخ الروماني قرارا باعتبار نوميديا مُلكا عاما للشعب الروماني، بتملك الروماني فيها ما يريد، وقد فسر المؤرخون عدم ضم نوميديا وموريطانيا إلى الإيالة الإفريقية الرومانية بتأجيج المشاعر التي ولدتها ثورة يوغورطا في نفوس البربر؛ وتقرير مرحلة انتقالية يُختار فيها ملوك ضعاف كبوكوس وغودا، يمهدون للمرور لمرحلة الضم الاستعماري الكامل، وذلك عن طريق تأسيس جالية رومانية بالمغرب تتحكم في اقتصاد البلاد وزراعته بواسطة سرقة الأرض وتأسيس اللوتيفوندات، كما عزلت روما مساحة واسعة بين موريطانيا ونوميديا وكوّنت منها ولاية يحكمها الرومان مباشرة، حتى لا يقع التماس بين المملكتين ويعودان إلى التنسيق ضد التسلط الروماني، كما حدث بين يوغورطا وبوكوس في البداية.

  الخلاصة:

  يوغورطا الذي اكتسب الخبرة العسكرية كضابط في الجيش الروماني، أدرك أن جده ماسينيسا كان مخطئا عندما تحالف مع الرومان ضد امبراطورية قرطاج التي كوّنها عنصران الفينيقيون الكنعانيون والأمازيغ القحطانيون، وتأكد من نية الرومان القضاء على استقلال نوميديا وموريتانيا وجعل المغرب الكبير تابعا ومُلكا لروما، فثار ضدهم، وقد سلك بعده تاكفاريناس مسلكه فثار ضد الرومان سنة 17 م، كما ثار الأب دونا النقريني على الرومان في القرن الرابع الميلادي وكوّن الدوناتية (المذهب الأمازيغي المسيحي المناضل) التي قاومت الاستعمار الروماني والقديس أوغستين، اليد اليمنى للاستعمار الروماني والمذهب الكاثوليكي للرومان، وكانت نهاية الاستعمار الروماني بالمغرب على يد الإخوة العدنانيين الفاتحين المسلمين للمغرب، حيث حلّوا المزارع الكولونيالية اللوتيفوندات وأعادوا الأرض إلى المزارعين الأمازيغ، وتركوا هؤلاء الملاك يدفعون الزكاة إن أسلموا والجزية إن بقوا على دينهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*   معلومات هذا المقال مستمدة من كتاب: الجزائر في التاريخ لعثمان سعدي

[1 ] محمد الصغير غانم، المملكة النوميدية والحضارة البونية [الجزائر 1998] ص 112.      

مقالات ذات صلة