-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

غزو بوتين لأوكرانيا والضَّمير المستَتِر في العلاقات الدولية

ناصر حمدادوش
  • 1710
  • 2
غزو بوتين لأوكرانيا والضَّمير المستَتِر في العلاقات الدولية

بالرَّغم من المسيرة الطويلة للعلمانية في أوروبا منذ القرن الـ16 بعد الثورة العقلانية على الحكم الدِّيني الكنَسي المسيحي الغارق في ظلام القرون الوسطى، بما عُرِف بـ”عصر الأنوار” و”عصر الحداثة” وعصر “ما بعد الدِّين” وعصر “دين العقل”.

وبالرَّغم من الدور المتواضع للدِّين وتهميش مرجعيته في رسم العلاقات الدولية إلى غاية منتصف القرن العشرين، إلاَّ أنَّ الرَّاصد للتوجُّهات الغربية بعده يؤكِّد على الاعتقاد بفاعلية هذا “الضَّمير المستتر في العلاقات الدولية”، بعد تطوُّر الفكر الغربي إلى مرحلة “ما بعد الحداثة”، وهو ما يعني أنه لا انفراط للعقد بين الدِّين والمجتمع، أو بين الدِّين والقيم، أو بين الدِّين والسِّياسة، أو بين الدِّين والدولة.

لقد كانت هناك مفارقةٌ تاريخيةٌ خطيرة، وهي أنَّ الدولة الحديثة في أوروبا منذ “صلح وستفاليا” سنة 1648م كانت علمانية النَّزعة، بعد التحرُّر من الإقطاعيةِ الممثَّلةِ في الإمبراطورية الرُّومانية المقدَّسة، بسلطتها الدِّينية للبابا على أوروبا الموحَّدة، والتي تبنَّت الأسس الجديدة للدولة، إلا أنَّ التوسُّع الجغرافي لها في مستعمراتها في إفريقيا وآسيا كانت لها أبعادٌ وخلفياتٌ دينيةٌ فاقعة، إذ كانت “البعثات التبشيرية” هي الممهِّدة للقُوَّة العسكرية بالسَّيطرة، فكان استبعادُ الدِّين داخليًّا وليس خارجيًّا.

وبعد ترسيخ مفهوم “الدولة القومية” على أعقاب “صلح فرساي” وتسويات الحرب العالمية الأولى سنة 1919م أصبحت المصلحة الوطنية القومية تُبنى على أساس القوة (الأرض والسُّكان والقوَّة الاقتصادية والعسكرية) وليس على أساس القيم الدينية، فحلَّت تيارات الحداثة محلَّ الدِّين في فهم وإدارة العالم، ثمَّ سيطر مبدأ الواقعية على فهم العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، والذي وَرِث عن “ميكيافيلي” (ت: 1527م) و”روسو” (ت: 1778م) نزعة الشكِّ في العلاقة بين الدول، والتي لا تخضع إلاَّ إلى عنصر القوَّة من أجل البقاء أو من أجل توازن الرُّعب لتحقيق الأمن والسَّلام، ولذلك فإنَّ أيَّ اختلالٍ للقوَّة العسكرية أو الاقتصادية بين الدول سيؤدِّي إلى وقوع الحرب ونشوب الصِّراع، وهو ما يعني تهميش القانون الدولي والمضمون الأخلاقي للدول في سبيل القوَّة والسَّيطرة.

تصاعد “البُعد الدِّيني” في العلاقات الدولية:

لقد أصبح “الدِّين” أحدَ أهمِّ الظواهر العالمية مع بداية القرن الـ21، وأصبح يمارس أهمَّ الوظائف في العلاقات الدولية، بل أصبح إطارًا مرجعيًّا محدِّدًا للسِّياسات الخارجية للدول، ففي العصر الأمريكي والإصرار على الأحادية القطبية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت أهمَّ القضايا المحورية والسَّاخنة في العالم هي القضية الفلسطينية، وتساءل الكثير عن “الضَّمير المستتر” وراء الإدمان الأمريكي المطلق على دعم هذا الكيان الصهيوني اللَّقيط؟
والصُّهيونية ما هي إلاَّ مجردُ حركةٍ علمانيةٍ امتطت الدِّيانة اليهودية والتوراة المحرَّفة لإقامة “إسرائيل” كدولةٍ دينيةٍ مزعومة، فهذا “بن غوريون” أوَّلُ رئيسٍ لوزراء هذا الكيان عام 1948م -ومع أنّه لم يكن رجلاً متديِّنًا- إلاَّ أنه تبجَّح بهذه الأسطورة الدِّينية القبيحة حين قال في الأممِ المتَّحدة: (قد لا تكونُ فلسطينُ لنا بالحقِّ السِّياسيِّ أو القانونيِّ، ولكنَّها حقٌّ لنا على أساسٍ ديني، فهي الأرضُ التي وعدَنا اللهُ بها وأعطانا إيَّاها من الفراتِ إلى النِّيلِ.”، فوجدت هذه الصُّهيونية العلمانية في البُعد الدِّيني الفرصة لإغراء اليهود في العالم بالهجرة إلى فلسطين، واشتقاق الحقِّ السِّياسي والتاريخي المزعوم من الحقِّ الدِّيني عبر صناعة السَّردية الدِّينية للتاريخ، وهي الأساطيرُ الدِّينية اليهودية نفسُها التي تصهينت بها المسيحية البروتيستانتية الإنجيلية المسيطرة على أمريكا، والتي تربط السِّياسة الأمريكية اتجاه إسرائيل بالعقيدة الدِّينية، وذلك بربط العودة الثانية للمسيح بقيام الدولة اليهودية وعاصمتها القدس، بل تؤسِّس لجميع علاقاتها الدولية على ذلك الأساس، فقد قرَّر الكونغرس الأمريكي يوم 24 أكتوبر 1995م أنَّ القدس هي العاصمة الأبدية والموحَّدة لإسرائيل.

والسِّياسية الصَّهيو- أمريكية تلوَّنت بالصِّبغة الدِّينية، فوحَّدت من مواقفها وعلاقاتها الدولية للاستثمار في هذا البُعد الدِّيني للأرض، وهو ما جعلها بارعةً في توظيف الدِّين لأغراضٍ سياسية، ودفْع العالم للاعتراف بيهودية الدولة لإسرائيل، كما أنَّ اختراق “التطبيع” للعالم العربي الآن وجد ضالته في هذا الضمير المستتر، وذلك من البوابة الكبرى للدِّين، عبر “الدِّيانة الإبراهيمية” المزعومة لتذويب الفروق بين الإسلام واليهودية والمسيحية، وهو الدِّين الذي اعترفت به الإمارات وطبًّعت على أساسه بعضُ الدول العربية، مثل: المغرب وغيره.

في مطلع السَّتينيات كان رائدُ الفضاء الرُّوسي الشهير “يوري غاغارين” أوَّلُ مَن دار حول الأرض في تاريخ البشرية، وكان الاتحاد السُّوفياتي يسبِّح بحمد مقولته الإلحادية المشهورة: “لقد صعدتُ إلى الفضاء ولم أرَ اللهَ هناك” كإحدى المقولات التأسيسية للشيوعية، ولم يتصوَّر أحدُ رواد الفضاء الرُّوس المفتونين به – ولو في أحلك كوابيسه– أنْ يُحاكَم ويُجرَّم سنة 2016م في قلب روسيا على وصفه للإنجيل بأنه: “مجموعةٌ من قِصصٍ وأساطير يهوديةٍ ليست إلا محض هراء”، بتهمة “إهانة مشاعر المؤمنين” وفق القانون الذي أقرَّه “بوتين”، وهو ما اعتُبِر تحوُّلاً مذهِلاً عن مرحلة “التمييز المناهض للدِّين”، فأصبح للكنيسة المسيحية الأرثودكسية حضورٌ قويٌّ في المشهد السِّياسي لروسيا القيصرية اليوم.

وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي بداية التسعينات -وفي سنة 1997م- ارتمت الكنيسة الأرثودكسية في أحضان الدولة، ونجحت في دفع الحكومة إلى إصدار قانون يُقيِّد حرِّية الممارسة الدينية للتضييق على الطوائف المسيحية الأخرى، وهو ما وضعها في مقعد القائد الدِّيني من جديد، والغريب أنَّ هذه الكنيسة عزَّزت نفوذها الرُّوحي مع الصعود الثاني لبوتين عام 2012م، فأصدر منتصف عام 2016م قانون الإرهاب ليُعزِّز من سلطة الكنيسة الأرثوذكسية عبر حظر أيِّ نشاطٍ تبشيريٍّ خارج نطاقها الرَّسمي.

إنَّ “بوتين” ليس رجلاً متديِّنًا ولكنه لم يكن ملحدًا بالمعنى الحرفي، وهو لا يرى فرقًا بين “المسيحية الأرثوذكسية” و”الشيوعية اللِّينينية” مادامت تؤدِّي دورًا وظيفيًّا في خدمة الدولة لترسيخ السيطرة الثقافية وتغذية الهويَّة القومية الرُّوسية، وذلك ببسط السيطرة الرُّوحية للكنيسة والسَّيطرة السِّياسية له، وهو ما يجعله في معاداةٍ لأيِّ نزعةٍ دينيةٍ أخرى تهدِّد هذه السيطرة الرُّوحية والسياسية في روسيا، وخاصة من “المسيحية البروتيستانتية” الغربية، وهو نوعٌ من التوليفة بين “المسيحية الأرثوذكسية” و”القومية الروسية” لتعويض ما خسره الاتحاد السوفياتي في الإيديولوجيا الموحِّدة للشعب الروسي، وهي صفقةٌ ذكية ومربحة للدِّين والدولة معًا، وهي وصفةٌ سحرية أثبتت فاعليتها في خطة “بوتين” الكبرى لاستعادة نفوذ روسيا وتأثيرها في محيط الحدود التاريخية للإمبراطورية الروسية، والتي تريد أمريكا وأوروبا التمدُّد في جغرافيتها عبر “الناتو” والتي وصلت إلى كبريائه في “أوكرانيا”.

هناك ضميرٌ مستترٌ في “غزوة بوتين” لأوكرانيا، وهو ارتباطه بالقومية المتحالفة مع الأرثوذكسية في روسيا، وهناك تعلُّقٌ تاريخي روسي بكييف مهدِ حضارتهم، والتي هي حلقةٌ مؤسِّسةٌ في تاريخها الدِّيني والسِّياسي، ولا يخفِي “بوتين” هَوَسه بخلافة القديس فلاديمير الأكبر، أمير إمارة كييف في الفترة (980م – 1015م)، والذي يُعدّ مؤسِّس روسيا والكنيسة الأرثوذكسية معًا.

كلَّ هذه الخلفيات تثبت أنَّ جوهر الصِّراع في أوكرانيا هو من أجل تحديد الهويَّة الدِّينية لشرق أوروبا، إذ تسعى “المسيحية البروتيستانية الغربية” إلى استيعاب “المسيحية الأرثوذكسية الرُّوسية” في المعسكر الغربي للتفرُّغ إلى الخطر الصِّيني الزَّاحف، إلاَّ أنَّ “القِسَّ بوتين” يأبى ذلك.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • لزهر

    شكرا تحليل قيم لا بد من أخذه بعين الاعتبار لكن علينا أن نفهم أيضا أن هذه الحرب هي حرب ( إستهلاك) بعيدة عن الدين بما فيها الطاقة يعني التحولات الطاقوية . من يتفوق في الأول يُسيطر على الآخر. حرب طاقوية عالمية بأتم معنى الكلمة في رأيي.

  • Haron

    الحمد لله على نعمة العلمانية في اوروبا الدين لا يتحكم في السياسة لذالك دولهم ناجحة الديانة تمارس في المنزل كل واحد حر انا شخصيا لا افرق بين مسلم وغير مسلم وانا ضد ممارسة الدين في ال اماكن العمل كلهم بشر ولهم حقوق وواجبات كل الدول الذي ادخلت الدين في منضومة الحكم دول فاشلة وشعبها مطهد وهذه حقيقة