الرأي

غزّة عالم

أرشيف

غريزة أودعها الله – العليم الحكيم- في الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، أبيهم وأحمرهم وأسودهم، وهي “حب الشهوات”، حيث قال سبحانه وتعالى: “زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث”. وقد صحّ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قوله: “حبّب إلي ثلاث، الطيّب، والنساء، وجعلت قرة عيني الصلاة”، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولكن الفرق بين الناس في كيفية إشباع هذه الشهوات، والحصول على هذه اللذات، فمنهم من ينالها بشرف، ويسعى إليها سعيها المشروع، ومنهم من لا يهمه الطريقة التي يحصل بها على هذه الشهوات، كالتزلف والتملق والتذلل لأرباب السلطان وأصحاب المال، ولا عيب عنده إذا امتلأ الجيب، سواء كان ذلك الامتلاء من حلال أو من حرام، وهو أحرص على إرضاء السلطان والشيطان ولو أسخط الرحمن، وأغضب الديان.
كان في مدينة بخارى على أيام الإمام محمد بن اسماعيل البخاري، صاحب “الصحيح”، كان على عهده أمير يسمى خالد بن أحمد الذّهلي.
ذات يوم بعث هذا الوالي إلى الإمام يطلب منه الحضور إلى مجلسه حاملا معه كتاب “الجامع” و”التاريخ” أو كتابا صحيح البخاري وتاريخ البخاري.. ليقرأهما عليه.
تحركت في الإمام البخاري عزّة المؤمن وعزّة العالم، فقال لمبعوث الأمير ليبلغ لأميره: أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كان للأمير حاجة إليّ، فليحضر في مسجدي أو في داري، فإن لم يعجبه هذا مني، فهو سلطان فليمنعني من مجلس العلم، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، فإني لا أكتم العلم، لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من النار”.
فقيل للإمام إن الأمير يريدك أن تعقد مجلسا لأولاده لا يحضره غيرهم، فرفض ذلك قائلا: “لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم”.
وبما أن الدنيا لا تخلو من أراذل ولو كانوا ذوي علم، فقد أوعز الأمير إلى “علماء” بلدته الذين يأتمرون بأمر السلطان، ولا يعصون له أمرا، فأطلقوا ألسنتهم في الإمام البخاري وتقوّلوا عليه، وألبوا عليه الغوغاء إرضاء لذلك الأمير، فاتخذ الأمير ذلك مبررا نلفي الإمام البخاري خارج إمارته.
وهاهو التاريخ يهمل ذلك الأمير فلا يأتي عن ذكره لا في النفوس ولا في الطروس، وهاهو التاريخ يلقي ستائر النسيان على أولئك “العلماء” الذين أكلوا التين بالدين، وباعوا ذمتهم، وأهانوا همتهم، وهاهم الإمام البخاري جعل الله اسمه على كل لسان، ونسأله – سبحانه- أن يجعل روحه للخلد. فهل يعتبر “علماء” هذا الأوان، فيحافظوا على شرف العلم، ولا يدنسوه بالتمرغ على أعقاب السلاطين وهم من أجهل الناس.

مقالات ذات صلة