-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فارس الرومنسية والجزائر

فارس الرومنسية والجزائر

أهداني أحد الأصدقاء، مشكورا، نسخة مصوّرة نادرة من كتاب قيّم، قد يكون اليوم ضاع في غبار رفوف المكتبات أو قرضت صفحاته الأرضة. الكتاب يكتسي قيمة تاريخية أكيدة، ويعدّ شهادة صادقة لمجموعة من المثقفين المصريين عن الثورة الجزائرية وفضائع الاستعمار في بلادنا. عنوان الكتاب “مع الجزائر” ويحمل أكثر من معنى: معنى التضامن الفعلي، والتعاطف النزيه، والمواساة الخالصة. وقد أصدرته جمعية الأدباء سنة 1957، وقدّم له الأستاذ يوسف السباعي بمناسبة مؤتمر تضامن الشعوب الافريقية والآسيوية الذي عقد في القاهرة. يقول يوسف السباعي: “إن قضية الجزائر هي في الواقع إحدى الحلقات الأخيرة في تاريخ الاستعمار الغربي، وإذا ما انفصمت هذه الحلقة، فإن الاستعمار مآله الزوال”. وهذه النبوءة تلخص في رأيي مواقف كبار المثقفين المصريين الذين أسهموا سواء في التنديد بالاستعمار أو دعوة فرنسا أن تكف عن بغيها.

ويوسف ادريس أشهر من أن يعرّف. فقد تعلّمت على يده أجيال كاملة فنون كتابة القصة والمقال الصحفي. وترأس رئاسة تحرير العديد من الصحف والجرائد المصرية منها الأهرام والمصوّر وآخر ساعة. والغريب في أمر هذا الرجل أنه بدأ مشواره المهني كعسكري، وترقى في الرتب والمناصب إلى أن قلّد رتبة عميد. لكنه سرعان ما طلّق الحياة العسكرية لينصرف إلى الكتابة. من أشهر أعماله التي حوّلت إلى أفلام “إني راحلة” و”وردة قلبي” و”أرض النفاق” و”نحن لا نزرع الشوك”. وأنتج التلفزيون المصري مسلسلا عن سيرته بعنوان “فارس الرومنسية”. تمتاز لغة يوسف السباعي بالجزالة وأسلوبه بالنصاعة، يجمع بين رومنسية حالمة ورمزية فيها الكثير من الإيحاء لكن من دون غموض أو تلغيز.

كتاب “مع الجزائر” هو إدانة للنظام الاستعماري الغاشم، ووقفة عظيمة إلى جانب الشعب الجزائري ومعاناته، وهو أيضا موقف عظيم كشف الخديعة الكبرى التي يعيشها الشعب الفرنسي، وكأنه أبكم أصم، أدار ظهره لما يحدث في الضفة الأخرى من المتوسط. يقول يوسف السباعي: “إن نضال الشعب الجزائري لم يتوقف، لكنه صار اليوم نضالا مختلفا، لم يعد نضالا فردانيا يقوم به شعب شجاع جسور، بل صار قضية. قضية تبنتها شعوب آسيا وإفريقيا ولن تتخلى عنها حتى تحقق لها النجاح. سنة 1957 كانت ثلاثة أرباع سكان العالم يظهرون شعورهم نحو الجزائر التي تحوّلت إلى قضية عربية تآزرت فيها شعوب العالم العربي، والآن إلى قضية إفريقية آسيوية تضامن فيها 48 شعبا. “مع الجزائر” هو إدانة صريحة من مثقفين مصريين لجرائم الجيش الفرنسي وللمنظة العسكرية السرية ولحكام فرنسا الذين خضعوا لإرادة العسكر وللمثقفين الفرنسيين إلا من رحم ربك الذين كانوا مقتنعين أن فرنسا العظمى صاحبة شعارات الحرية والأخوة والعدالة لا يمكن أن ترتكب “ما يشاع” عنها من جرائم ضد الانسانية في الجزائر.

“مع الجزائر” لا يكاد مقال منه يخلو من ذكر جميلة بوحيرد التي شبهت الكاتبة الانجليزية نورا بيلوف محاكمتها بقصة دريفيس وإميل زولا منذ قرن تقريبا… هذه المحاكمات تمت أمام محاكم عسكرية كانت تعرف الحكم مقدما قبل إجراء المحاكمة.

يوسف السباعي كان عين مصر على آسيا وإفريقيا وما يجري في بلدانها من تحولات عاصفة، والتزامه بقضاياها لا غبار عليه. وله تجربة ثرية في الحياة مسنودة بذكاء وقّاد وحنكة نادرة. وقد لامه الكثير على تأييده لاتفاقيات كامب دفيد وتوليه منصب وزير الثقافة في عهد أنور السادات، كما فعل جابر عصفور لما قبل المنصب نفسه في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. وقد برّر جابر عصفور ذلك بالقول إن خير مبارك عليه سابق ولا يمكن أن ينساه. اغتيل السباعي في مطار لارناكا أثناء مشاركته في مؤتمر آفرو آسيوي واتهم آنذاك أبو نضال وجماعته باغتياله وكاد ذلك أن يؤدي إلى حرب حقيقية بين مصر وقبرص.

يختم يوسف السباعي تقديمه بالقول إن جمعية الأدباء تهدي هذا الكتيب إلى الجزائر “إنه انعكاسات ومشاعر وإحساسات لما تنبض به قلوب الكتّاب المصريين نحو إخوانهم الجزائريين، فحروب التحرير لا تكسب بالسيف وحده أو المدافع والطائرات، بل لا زال للقلم مجال فيها. وأقلام مصر وكتّابنا في البلاد العربية وكتاّبنا في آسيا وإفريقيا لن تفتر ولن تتوقف عن الكتابة في سبيل الجزائر.

ساهم في كتاب “مع الجزائر” ثلّة من الأقلام المعروفة هم: طه حسين، ابراهيم غافر، أحمد بهاء الدين، مرسي سعد الدين، رمسيس يونان، يوسف ادريس، عبد العاطي جلال، لويس عوض، سلامة موسى، أنور عبد الملك، رجاء النقاش، ألفريد فرج، محمود يوسف، محمود أمين العالم بالإضافة إلى مقال جميل للشيخ البشير الابراهيمي بعنوان “ثورة الجزائر”.

إنه كتاب رائع وجريء يزيل تلك الغمامة التي لبّدت سماء البلدين في الفترة الأخيرة بمناسبة لقاء كروي. ويخرج القارئ بانطباع، بل بقناعة، بأن ما حدث بين الشعبين هو مجرد سحابة صيف سرعان ما تزول.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • دلهوم

    الثورة الجزائرية ألهمت عدد هائل من الكتاب على المستوى العالمي تجدهم من أمريكا و أمريكا اللاتينية و الصين و الهند و روسيا و أدغال إفريقيا و جنوبها و العديد من العرب و من أوروبا و حتى من نخببة مثقفي فرنسا نفسها, فما بال كاتبنا يعظم في القطرة حتى خيل لي أن السباحة فيها ممكنة ؟؟؟؟؟

  • البشير بوكثير

    مايجمعنا بالأشقاء المصريين أكثر ممّا يفرّق.
    بوركتَ يا فارس الرومانسية والوطنية والواقعية التاريخية.

  • مصرى

    شكرا لقلمك الصادق النبيل وأريد التنويه عن أن اسم يوسف إدريس فى أول الفقرة الثانية من المقال هو مجرد خطأ سهو ليس إلا والكاتب يقصد الأديب يوسف السباعى
    شكرا ثانية