-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فاعلية العقل المقاصدي في العمل السِّياسي

ناصر حمدادوش
  • 286
  • 1
فاعلية العقل المقاصدي في العمل السِّياسي

لا تُخفى العلاقة الحيوية بين “مقاصد الشريعة” وبين “السِّياسة الشرعية”، فكلاهما يلامس الوجود الإنساني، ويؤثر في حركته اليومية في الحياة، فلا يجد لنفسه مفرًّا منهما مهما تنكَّر، فهو في حاجةٍ إليهما في دينه ودنياه، وهما محدِّدان له في مسيره ومصيره في الدنيا والآخرة.

مصدر مصطلح “السِّياسة” مِن: سَاسَ يَسُوسُ سِياسَةً، أي: رئاسة الناس وقيادتهم وتدبير شؤونهم والقيام على رعاية مصالحهم ودرء المفاسد عنهم، فقد جاء في “لسان العرب” لابن منظور: “والسِّياسة: القيام على الشَّيء بما يصلحه..”، وفي الحديث النبوي الشريف: “كان بَنُو إسرائيل يَسُوسُهم الأنبياء..”، أي تتولَّى أمورهم، كما يفعل الأمراء والولاة بالرَّعية، ونقل “ابن القيم الجوزية” في كتابه “الطرق الحكمية في السِّياسة الشرعية” عن “ابن عقيل” قوله: “السِّياسة ما كان فِعلاً يكون النَّاسُ فيه أقرب إلى الصَّلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرَّسولُ صلى الله عليه وسلَّم، ولا نزل به وحي..”، وهو ما يؤكِّد على تلك العلاقة القوية بين “مقاصد الشريعة” وبين “السِّياسة”، وعلى ذلك الاجتهاد المقاصدي في العمل السِّياسي، فهي مرتبطةٌ بتولِّي الصَّالحين وقيادتهم للنَّاس، وذلك برعاية مصالحهم ودرء المفاسد عنهم، وهو ما يتطلَّب إعمال العقل المقاصدي وفاعليته.

قال الإمام العلامة المقاصدي التونسي “محمد الطاهر بن عاشور”(1879م – 1973م) عن المرجع الأول في علم المقاصد في تاريخ العلوم الشرعية وهو كتاب “الموافقات” للإمام الشاطبي (1144م – 1194م): “لقد بَنى الشاطبي حقًّا بهذا التأليف هَرَمًا شامخًا للثقافة الإسلامية.. أوجد الجمع بين أحكام الدِّين ومستجدات الحياة العصرية..”، أي طرق المواءمة بين أحكام الدِّين الخالدة وصور الحياة المختلفة والمتعاقبة.

وقد تمَّ تعريف السِّياسة الشَّرعية بقولهم: “هي حراسة الدِّين، وسياسة الدُّنيا به”، وهو ما يعني أنَّ من أهمِّ مقاصد السِّياسة الشَّرعية هي: “حراسة الدِّين”، وهو ما ينطبق على أعظم مقاصد الشريعة، وهو: “حِفظ الدِّين” ضمن الكليات الخمسة، التي جاءت الشريعة الإسلامية للمحافظة عليها، وهو التكليف الإلهي بذلك في قوله: “وأنْ أقيموا الدِّين، ولا تتفرَّقوا فيه..” (الشورى:13)، فإقامة الدِّين هي من أهمِّ الوظائف الأساسية واليومية للإنسان، والذي تستقيم به حياته في العاجل والآجل، وذلك بغرس القيم وترشيد التديُّن، وهو ما جعل أولوية الخط الاستراتيجي على مستوى خطِّ المجتمع في المرحلة المكية (13 سنة) في بناء رجل العقيدة والإيمان والفكرة مقدَّمة على الإعداد للخط السِّياسي على مستوى خطِّ السلطة لبناء الدولة في المرحلة المدنية (10 سنوات)، وإن كانت العلاقة بين “الخط الاستراتيجي” و”الخط السِّياسي” هي علاقة تكاملية متزامنة، وليست علاقة تآكلية منفصلة، فالعقل المقاصدي يقتضي “إقامة الدِّين” في المجتمع من أجل “إقامة الدولة” في الأمة، لصناعة النهضة وبناء الحضارة في الإنسانية، وبذلك يتحقق الشهود الحضاري، كما قال تعالى: “لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرَّسول عليكم شهيدًا..”(البقرة:143)، فالشهادة المطلوبة هي التي تكون على الناس (الإنسانية جمعاء) وليست على المؤمنين فقط، وهو ما يتطلب تجاوز “العقل الفقهي” إلى “العقل المقاصدي” وصولاً إلى “العقل الحضاري”، والقفز فوق الحزبية والإيديولوجية والمذهبية والطائفية والشخصانية إلى الوطنية والعالمية والإنسانية.

هناك مشروعٌ سياسيٌّ إسلامي عاد للبزوغ بقوَّة في العصر الحديث، عبر الصحوة والحركة الإسلامية المعاصرة، والتي تتجاوز الأشكال التنظيمية التقليدية، لتجاوز الإسلام بمادَّته المعصومة المثالية مختلف الفُهُوم البشرية الإيديولوجية له، ومع ذلك فقد قام هذا المشروع على إمكانية المواءمة بين الإسلام وبين الواقع الحداثي المعاصر بمختلف تعقيداته، وعلى رأسه الدولة الوطنية الحديثة، تلك الفكرة كانت تستدعي بحثًا جديدًا عن إمكانية هذه المواءمة من خارج النَّص الديني الذي مثَّل عند البعض قيدًا، إلاَّ أنَّ العقل المقاصدي للشريعة الإسلامية هي خروجٌ من محدودية النص والتوسُّع خارج إطاره، وهو ما يستوعب أقضية الإنسان التي لا تنتهي، ويجعل الإسلامَ دينًا سَمْحًا خالدًا وصالحًا لكلِّ زمانٍ ومكان، ومع ذلك فإنه من الضروري إدخال التجديد والتطوير في فقه المقاصد، وهي من أهمِّ الواجبات والمهام الفكرية، فلم يكن من الممكن أن يُستفاد من هذه المقاصد، من دون توسعةٍ وتطويرٍ يفتح لها البابَ لتكون أداةً لمواكبة العصر وتغيُّراته، مع التوازن العلمي الموضوعي بين إعمال النُّصوص وتفعيل المقاصد من دون تعطيلٍ أو مبالغةٍ في أحدهما على الآخر.

ويمكن رصدُ تحوُّلَيْن بارزين في الخطاب المقاصدي التجديدي، والذي يُظهِر التحوُّلَ الذي أحدثه هذا المشروع الإسلامي السِّياسي المقاصدي بعيدًا عن الدراسات المقاصدية التراثية القديمة، يتمثَّل التحوُّل الأول في توسيع مجال إعمال المقاصد الخمسة وتوسيع مجالاتها: من حِفظ النفس إلى حقوق الإنسان، وحِفظ الدِّين إلى حرية التديُّن والمعتقد، وحِفظ العقل إلى حرية الفكر والإبداع، وحِفظ المال إلى حرية الاستثمار والاقتصاد والتجارة وتنمية المال، وحِفظ النَّسل إلى حقوق الطفل والمرأة والأسرة والمجتمع، ويتمثَّل التحوُّل الثاني في الزيادة عليها وتعديلها لتوطين مفاهيم حديثة داخل هذه المقاصد الشَّرعية وفق الرؤية الحضارية الإسلامية، ومحاولات الاستئناف الحضاري للأمة من جديد، على اعتبار أنَّ العقيدة النَّصية تؤكِّد أنَّ المستقبل لهذا الدِّين، وأنَّ الإسلام هو حضارة الغد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلَّم: “ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيلُ والنَّهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر.”.

يتمثَّل التحوُّل الأول في توسيع مجال إعمال المقاصد الخمسة وتوسيع مجالاتها: من حِفظ النفس إلى حقوق الإنسان، ومن حِفظ الدِّين إلى حرية التديُّن والمعتقد، وحِفظِ العقل إلى حرية الفكر والإبداع، وحِفظِ المال إلى حرية الاستثمار والاقتصاد والتجارة وتنمية المال، وحِفظ النَّسل إلى حقوق الطفل والمرأة والأسرة والمجتمع.

ومن أهمِّ الإبداعات في حيوية الإسلام هو عقلنة الشريعة، إذ ارتبطت المقاصد بمسألة التعليل، أي أنَّ مبنَاها على تعليل أحكام الشريعة، أي ربط الأحكام الشرعية بالعِلَّة التي شُرِّعت بسببها، والأهداف والمقاصد التي شُرِّعت من أجلها في العاجل والآجل، وهو الارتقاء من مجرد الوقوف على شكل الشريعة إلى الغوص في عمق وروح الشريعة.

ومن ثمَّ فقد صار المقاصديون بحاجةٍ إلى إعادة تأويل المقاصد مرةً أخرى، خاصةً إذا أرادوا استخدامها في المشروع الإصلاحي الذي يسعى إلى التوفيق بين الدِّين الإسلامي وبين الواقع الحداثي.

بهذا أحدث المقاصديون الجدد تحولًا في المقاصد كمًّا وكيفًا، وعمل على تغييرٍ مهمٍّ في إعادة تعريف مركزية الدِّين ومقاصده وضروراته على ضوء القيم السِّياسية الحداثية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • Ayoub

    هل غيرت هذه المقاصد من واقع الناس؟