فكرة مالك بن نبي تعود من جديد
تحل علينا الذكرى 35 لوفاة المفكر الجزائري المرموق مالك بن نبي ولو كانت العدالة العلمية قائمة لتأسست جائزة نوبل للفكر ولمنحت واحدة منها للرجل الذي أطلق فكرة “نظام التفكير” الخاص بالعالم الاسلامي.
-
وكم كنت أتمنى لو أنني التقيت مالك في حياته فقد غادر بيته الصغير أعالي العاصمة إلى الدار الأوسع في الآخرة وأنا لازلت في السنوات الأولى من التعليم الابتدائي ولم يكن حظي من حضور الرجل سوى ما كتب بالفرنسية أو ما ترجمه له الدكتور عبدالصبور شاهين أو الأستاذ المستيري وهي كتابات مهما حاولنا فهم مغزاها تظل مجهولة الأبعاد في عالم ورث التخلف وتوقف عن التفكير واستسلم للقابلية للتبعية. في هذه الوقفة مع ذكرى الرجل الذي ترجمت كتاباته للغات العالم لا نقرأ فكر مالك بن نبي ولكن نحاول أن نثير قضية مهمة ـ في اعتقادي ـ وهي: لماذا عجز المسلمون عن استيعاب شروط النهضة التي رسمها لنا ابن قسنطينة المهندس المفكر صاحب فكرة الأفروآسيوية.
-
تفكك النخبة وتقاعس التلاميذ
-
عندما شرع ابن نبي في سلسلة حلقاته عن الحضارة وشروط نهضة العالم الاسلامي ومشكلات الثقافة كان يستهدف تشكيل نخبة جزائرية ومسلمة واعية بمصير أمتها ومدركة لجوهر الصراع الفكري في العالم، الشيء الذي لم يكن سهلا في الفترة التي أعقبت استقلال البلاد وحتى قبلها اذ ظل الأثر السوسيولوجي للاستعمار محيطا بفكرة تشكيل نخبة وطنية ذكية كما ظل نفس الأثر قائما بعد الاستقلال ولكن في شكل جديد تمثل في الاستعمار الاديولوجي الذي مازلنا ندفع ثمنه الى اليوم في شكل ارتدادات مستمرة. ولذا لم يكن هناك بد من مخاطبة نخبة هي بالأساس غائبة أو غير مكتملة. واستمر ابن نبي يكتب لتلاميذه وكأنه يكتب لنفسه اذ لم يكن أحد يحسن قراءة فكر الرجل وحتى تلك القلة من التلاميذ التي كانت تحيط به ظلت تتدرب على قراءة فكره دون أن تتمكن من ترجمته للناس أو تحويله الى نماذج عمل وسياسات. وهكذا وقع ابن نبي فريسة الفكرة التي طورها بنجاح “الفكرة التي لا تجد أدوات تطبيقها تموت لا محالة”. لقد اتهم الكثيرون تلاميذ ابن نبي بالتقاعس في تسويق أفكاره وهم مخطئون في ذلك، فهؤلاء التلاميذ لم يشكلوا بعد نخبة كي تحاسب وحتى المحيط الاجتماعي الذي ينتمون اليه لم يكن من الثقافة ما يجعله يستوعب منتوجا كمنتوج ابن نبي، أما النظام السياسي السائد فلم يكن يقوى على تحمل أفكار جيدة خارج منظومة الحزب الواحد وحتى الحركة الاسلامية التي تشكل المجال التاريخي والعقائدي لأفكار الرجل لم يتجاوز تدخل بعض رموزها التاريخيين حدود الجدل الفلسفي. وهكذا تقطعت السبل بأفكار مالك بين نخبة لم تكتمل وتلاميذ يبدو أنهم تقاعسوا في توظيفها اجتماعيا أو سياسيا وهذا ليس عيبا في حد ذاته اذا أخذنا بعين الاعتبار ظروف عمل النظام الثقافي الجزائري بعد الاستقلال.
-
-
الأفكار الحية لا تموت أبد
-
-
أشار مالك بن نبي الى امكانيات الصين في الهيمنة على اقتصاد العالم فطور فكرة “الارادة تصنع الامكان”، وتوقع نشوء التكتلات فبادر الى اطلاق “فكرة الأفروآسيوية”، وانتقد مسار تعطيل الثقافة الاسلامية بكل عناصرها فأوضح أن الأفكار الجيدة اذا عطلت تموت بل تصير قاتلة، وآمن بالجدوى الاقتصادي لحياة المسلم فكتب تحفته “المسلم في عالم الاقتصاد”، وآمن بفكرة مسؤولية المجتمع في التغيير فطور مفهوم “سوسيوليجية الثورة”. وظل ابن نبي ملتقى ممتازا لاجتهادات كل من ابن خلدون، ابن رشد، وابن باديس هذا الأخير الذي التقاه على محور التعليم وتشكيل النخبة المتعلمة ولو بطريقة مختلفة وهذا لا يهم. واستمر الرجل في نقد حاضر المسلمين وأنهم سبب الاستعمار الذي لم يقم بأكثر من استغلال “قابلية الشعوب المستعمرة للاستعمار”. واليوم، ونحن نقترب من نصف قرن من رحيل الرجل، بقيت نفس الاشكاليات مطروحة وتحقق من تنبؤاته الكثير وأصبحت “الأفروآسيوية” فكرة جاهزة أمام الصينيين الذين شرعوا في التوسع افريقيا من خلال استثماراتهم ونظرتهم “الكونفوشيوسية” للأشياء. أما مشكلات الدولة الاسلامية و منتجات الحكم بالشريعة فنحن نرى كيف غذت ما يسمى بالارهاب كظاهرة عالمية تشكل رد فعل لتعطيل وقع في التاريخ لفريضة أساسية هي “الجهاد في سبيل الله”، تماما مثلما غذت تشتت التيار الاسلامي الذي كان عليه استثمار الحريات المتاحة في اقتراح أفكار حية بدل الامعان في النمطية الفكرية.
-
-
أين مؤسسة مالك بن نبي؟
-
-
لم يكن المشاركون في آخر ملتقى عن فكر مالك بن نبي ظالمين عندما اجمعوا على توصية إطلاق”مؤسسة مالك بن نبي” ولم يكن الذين وقعوا عريضة نصرة الرجل مؤخرا ظالمين هم كذلك وهم يستنكرون التعدي على بيت الرجل في مسقط رأسه ولم يكن الذين أسسوا جمعيات في الجزائر وخارجها باسم ابن نبي والذين اطلقوا اسمه على مؤسسات التربية والتعليم لم يكونوا ظالمين أبدا فنحن جميعا معنيون بممارسة أضعف الايمان والتعبير عن شعورنا الجميل عن رجل تقرأ كتبه في اسرائيل أكثر مما تقرأ في بلده، ولكنه شعور جميل لا أكثر بدليل أن الذين عليهم اطلاق مؤسسة ابن نبي قد شغلوا عنها وأن الذين هندسوا لسنة الثقافة العربية بالجزائر نسوا أن ابن نبي عاش بالمشرق العربي وحاضر بها ونشر فيها وصنع هناك تلاميذ هم اليوم رموزا للثقافة العربية في بلدانهم، أما القائمون على الذاكرة الجزائرية فربما تمر ذكرى وفاته اليوم ولا أحد يتذكر أنه اليوم الذي انتقل فيه مالك ابن نبي الى الآخرة تاركا وراءه أفكار ألا تموت.