الرأي

فلتفرح بلقاء الله يا فارح

تلقيت في مساء يوم الثلاثاء الماضي خبرا هز أركاني هزا:مات فارح…تسارعت نبضات قلبي، ضاق صدري، جف حلقي، زاغ بصري، اغرورقت عيناي بالدموع…

حوقلت واسترجعت، وترحمت عليه…وتلوت قوله تعالى “الذي خلق الموت والحياة”: “كل نفس ذائقة الموت”… ورحت أردد قول الشاعر الحكيم:

كل ابنِ أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباءَ محمول

سمعت باسم الأستاذ محمد فارح في الستينيات عن طريق جريدة الشعب، حيث كان أحد أركانها، ثم عرفته في منتصف السبعينيات، فكأنني دخلت مدرسة أخلاقية متحركة، فتعلمت فيها التواضع، والحلم، والسماحة، والصبر الجميل، والعفة: عفة اليد، واللسان، وسلامة الصدر…وما شئت من الكلام الطيب، والسلوك الحسن…وما رأيته غضبان إلا في شمس أفريل من سنة 1992، بسبب سلوك شخص معه، وقد اعتبرته مغاليا في ذلك الغضب، فلما مسني من ذلك الشخص مامسه عذرته، وغضبت أشدَّ من غضبه…

أنا مدين للأستاذ محمد فارح بدخولي عالم الكتابة، فقد كنا نتحلق حوله نحن مجموعة من الشبان (عز الدين عميرش، محمد نعومي، يوسف حمروش..) يتحدث فنلقي السمع، ونسأل فيجيب، ونستنصح فينصح…لقد كان واسطة عقدنا…

ذات يوم سألني: لماذا لا تنشر مقالات في الجرائد؟

كانت تلك أمنيتي منذ كنت فتى. ارتبكت وقلت: لا أملك مستوى يؤهلني للنشر في الجرائد…

تبسم الأستاذ وقال: إن كثيرا مما تقرأه في الجرائد تجرى عليه عملية تجميل، وإن اللغة التي تتحدث بها ـ مع تصليحات قليلة ـ صالحة للنشر، وطلب مني أن أوافيه بما أشاء من مقالات…فقد كان مشرفا ومعدا لصفحة في جريدة الشعب، يتناول فيها قضايا دينية وأخلاقية، وكان يحرص فيها على تقديم الدين السليم، والخلق القويم في لغة صحيحة، لا يستهجنها المثقف، ولا يستصعبها أصحاب المستوى المحدود.

لم يكن الأستاذ محمد فارح يعتبر نفسه موظفا كسائر الموظفين تنتهي مهمته بمغادرته مقر عمله، بل كان يعد نفسه صاحب رسالة، ولذلك لم يكن يعيش لنفسه وأهله، ولكنه كان يعيش قلومه ووطنه محاربا الاحتلال اللغوي، مجادلا عن دين تقَوَّل عليه المبطلون، مطهِّرا لسانا فشت فيه الرطانة والهُجنة..كل ذلك في متانة خلق، وصلابة رجولة، وعزة نفس، سلاحه فكر جوال، ولسان قوال، وقلم سيال…متمثلا قول الشاعر:

وقفت على إحياء قومي يرَاعي وقلبي، وهل إلا اليراعة والقلب

لقد كان محمد فارح طالبا مجتهدا كما أخبرناه زملاؤه، ومن ذلك أنه كان ثاني اثنين حصلا على شهادة الأهلية بملاحظة “أحسن” من معهد الإمام عبد الحميد ابن باديس (1) ، في دفعة ضمت طلبة صار لهم شأن في تاريخ الجزائر المعاصر، مثل الأزرق ابن علّو، وعبد الرزاق ڤسوم، والعربي لحسن، وعبد القادر ابن قاسي، وعبد القادر نور، ومحمد مهري، ومحمود يعقوبي…

لقد ذهب أستاذنا محمد فارح إلى ربه، وما أظنه إلا فرحا بلقائه، فقد نصح لله، ولكتابه، ورسوله، ولعباده ـ خاصة وعامة ـ وقد كان مثالا في خلقه، وما سمعت وما علمت أن أحدا ذكره بسوء، وأكتفي بسوْق شهادة أستاذ كبير فيه، وهو الأستاذ محمد الصالح الصديق الذي يقول: “له – فارح – كفاءة عالية، بالخصوص في فنون اللغة العربية، مكّنته من تصحيح أخطاء المتعاملين مع هذه اللغة في برنامج إذاعي عاش طويلا بعنوان “لغتنا الجميلة”، وله مقالات كثيرة في شتى المناحي والموضوعات، وأخلاقه عالية لا تتغير بتغير الأماكن والظروف.

وقد سافرت معه مرارا فما وجدته إلا ثابتا على ما حباه الله به من الفضائل والأخلاق، وهو إلى ذلك منطقي الفكر، شاعري العواطف، يحدّثك في أي موضوع حديث المطلع المتفهم (2)“.

عزّى الله آل فارح وأصدقاءه وطلبته أجمل العزاء، وأحيا بهم وفيهم مثله العلياء، وأنزل عليه شآبيب رحمته، ورضي عنه وأرضاه.

وصبرا جميلا يا صاحبة فارح وأم أولاده، وجزاك الله خير الجزاء أن كنت لفارح نعم الصاحبة، ولأبنائه نعم الوالدة، ولأصدقائه وطلابه نعم المكرمة.. وإنا لفقدك يا فارح لمحزونون.

.

هوامش:

1) جريدة البصائر.ع 281. في 30 7 1954.ص 5.

2) محمد الصالح الصديق رحتلي مع الزمان . ج2. ص 287

مقالات ذات صلة