-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فلسطين في سِفر تاريخ الجزائر

فلسطين في سِفر تاريخ الجزائر

لا يختلف اثنان في أمر مساندة الجزائر للقضية الفلسطينية مساندة مطلقة، منذ ثورة أمين الحسيني سنة 1936م ضد الاستعمار الانجليزي ظهير التوسّع الصهيوني في فلسطين. وفي هذا السياق أخبرني الكاتب بشير فريك أن قائد ثورة الأوراس سنة 1916م المجاهد عمر أوموسى قد شارك فيها. وما زالت الذاكرة الجمعية تتحدث عن مشاركة الجزائريين زرافات ووحدانا في حرب 1948م.
لا شك أن الرئيس هواري بومدين قد استحضر هذا الرصيد حينما أعلن شعاره المزلزل: « مع فلسطين ظالمة أو مظلومة». ثم تأكد هذا الدعم سنة 1982م حين استقبلت الجزائر بعض فصائل المقاومة الفلسطينية بعد إجبارها على مغادرة بيروت. ولعلّ الحدث الأهم الذي يُبرز مدى ارتباط الجزائر بالمقاومة الفلسطينية، هو إعلان القائد ياسر عرفات قيام الدولة الفلسطينية عاصمتها القدس، في العاصمة الجزائرية سنة 1988م في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله.
وفي الحقيقة، فإن هذه السياسة الجزائرية الداعمة لفلسطين ماديا وعسكريا ومعنويا، هي امتداد طبيعيّ لدور الجزائر في تحرير القدس من قبضة الصليبيين في القرون الوسطى.

البعدُ السياسيّ لملحمة 7 أكتوبر 2023م
هاهي القضية الفلسطينية تعود إلى مركز الأحداث، بفضل ملحمة 7 أكتوبر 2023م التي لم تأت من الفراغ بشهادة الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش، والمتزامنة مع الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973م التي هُزم فيها الكيانُ الصهيوني لأوّل مرة منذ نشأته سنة 1948م، فسقطت بذلك أكذوبة “الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر”. وفي الوقت الذي كان الكيان الصهيوني يظن أنه ردعَ المقاومة الفلسطينية بتواطؤ الأنظمة العربية المطبِّعة معه، إذا بحركة حماس تفاجئ حكومة المجرم نتنياهو، وتلحق به هزيمة عسكرية وأمنية واستخباراتية، لها تداعيات خطيرة على “شُذّاذ الآفاق” المستقدَمين إلى فلسطين المحتلة لتهويدها، يفكّرون بجديّة في الهجرة العكسية، وهو الآمر الذي جعل “الكيان الصهيوني” قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، على غرار انهيار “الجزائر فرنسية” سنة 1962م بعد أن قدّم الشعب الجزائري تضحيات جسيمة.

 شارك الجزائريون في معركة “حطّين” التي جرت قرب بحيرة طبرية في صائفة 1187م، ثم في معركة القدس في أكتوبر من السنة نفسها، وكان النصر حليفا لصلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين. وقد تلقى سيدي بومدين شعيب من صلاح الدين قطعة أرض في القدس مقابل مشاركته في الجهاد، صارت وقفا للجزائريين عُرف باسم “حيّ المغاربة”، كان يضم جزءًا من حائط البراق (حائط المبكى)، ومساكن وبساتين ومسجدا وزاوية توفّر الراحة لحجّاج الجزائر.

لقد أكّدت ملحمة 7 أكتوبر البطولية للعالم أن القوّة لا تصنع الحق ولا تصنع السلام، وأن إرادة الشعوب لا تُقهر لأنها من أرادة الله، وأن الليل ينجب صبحا حين يكتمل، وأن الأمل يولد من بطون المآسي كما ذكر الشاعر اليمني عبد الله البردوني.

التواصل التاريخي بين الجزائر وفلسطين
استجاب الجزائريون لنداء الواجب الديني الإسلامي، حينما تعرّضت فلسطين الطاهرة للعدوان الصليبيّ في القرون الوسطى، وفي هذا السياق قاد العالمُ الزاهد المتصوّف سيدي بومدين شعيب الغوث مريديه وطلبته وأنصاره نحو فلسطين، منطلقا من مدينة بجاية التي كان يقيم بها منذ ما يقارب عشرين سنة.
شارك الجزائريون في معركة “حطّين” التي جرت قرب بحيرة طبرية في صائفة 1187م، ثم في معركة القدس في شهر أكتوبر من السنة نفسها، وكان النصر حليفا لصلاح الدين الأيوبي (مؤسس الدولة الأيوبية في مصر والشام.) قاهر الصليبيين. وقد تلقى سيدي بومدين شعيب من صلاح الدين الأيوبيّ قطعة أرض في القدس مقابل مشاركته في الجهاد، صارت وقفا للجزائريين عُرف باسم “حيّ المغاربة”، كان يضم جزءًا من حائط البراق (حائط المبكى)، ومساكن وبساتين ومسجدا وزاوية توفّر الراحة لحجّاج الجزائر.

دلالة مصطلح “المغرب” قديما
من المفيد أن ألفت انتباه القرّاء إلى أن المصطلح “حيّ المغاربة”، كان يطلق على هؤلاء المجاهدين الجزائريين المرافِقين لسيدي بومدين شعيب، استقرّ عدد منهم بأراضي الوقف الخاص به. إن تسمية المغرب الإسلامي كانت تُطلق في القرون الوسطى على أقطار شمال إفريقيا على النحو التالي: المغرب الأدنى (تونس)، والمغرب الأوسط (الجزائر)، والمغرب الأقصى (المملكة المغربية حاليا). لذا لا يمكن فهم المصطلح فهما صحيحا إلاّ في سياقه التاريخي الصحيح.

 وصف عبد الله صلاح مغربي في كتابه المذكور، توزيع المهاجرين الجزائريين على أراضي فلسطين على النحو التالي: «انتشر الجزائريون في مختلف المناطق الفلسطينية مثل الجليل وعكا ويافا والقدس وطبريا وغيرها، تماما مثل ما كانوا ينحدرون من مناطق مختلفة في الجزائر، خاصة المناطق القبائلية منها. ولكن أكبر تجمع لهم استقر في قرى الجليل الأعلى، وضواحي مدن حيفا وعكا وطبرية.» وذكر الكاتب ثلاث عشرة قرية استقر بها المهاجرون الجزائريون.

ولعل ما يؤكد ذلك أن الشيخ أبا يعلى الزواوي الذي عاش في الشام في مطلع القرن العشرين، قد أوضح في كتابه (تاريخ الزواوة) الصادر سنة 1921م، أن الأمير عبد القادر الجزائري، أطلق اسم المغاربة على سكان الزواوة المقيمين في دمشق: «…واعتبروا في الشام بالمغاربة وأظنّ أن ذلك بدهاء المرحوم الأمير عبد القادر، ذلك الرجل العظيم الذي يعرف كيف يُؤكل الكتف، فجمعهم باسم المغاربة أشمل وأعمّ من اسم الزواوة.». وقال في فقرة موالية أيضا: «…ولا ينكر ولا يمارى أن أولاد الأمير إنما كان عزّهم وجاههم وقهرهم لكثير من البيوت والعصبيات بالزواوة الذين بدمشق وما حوله، لأنهم اشتهروا هنالك باسم المغاربة».

اعتراف الانتداب البريطاني بوقف سيدي بومدين شعيب
الجدير بالذكر أن الانتداب البريطاني كان يعترف بملكية الجزائريين لحيّ المغاربة بموجب عقود تؤكّد ذلك. وقد سعى بعض الجزائريين بعد نكبة 1948م لاسترجاع حيّ المغاربة باعتباره وقفا مشروعا لهم، وفي مقدمة هؤلاء، الشيخ الطيب العقبي الذي تنقَّل إلى المشرق العربي وقابل ملك السعودية عبد العزيز بن سعود، وملك الأردن عبد الله بن الحسين سنة 1950م. ومن جهة أخرى تنقَّل مفتي مدينة الجزائر محمد العاصمي إلى باريس حاملا معه عقود سيدي بومدين شعيب الغوث، للتعبير عن قلق الجزائريين حول مصير هذا الوقف.
ولمزيد من التفاصيل حول الموضوع، أقترح على القرّاء مطالعة كتاب الكاتب كمال بوشامة الموسوم: ” Les Algériens de Bilâd ec-shâm “.

هجرة الجزائريين إلى فلسطين في القرن19م
اضطرت عائلاتٌ جزائرية كثيرة بعد تعرّض الجزائر للاحتلال الفرنسي إلى الهجرة نحو الشام، خاصة من منطقة القبائل حسب المؤرخ هلال عمار الذي يعدّ كتابه الموسوم: “الهجرة الجزائرية نحو الشام (1847م-1918م) مصدرا هاما لا يمكن الاستغناء عنه، لما يتضمنه من معلومات موثَّقة مستقاة من الأرشيف الفرنسي، خاصة الموجود منه في Aix-en- Provence.
ومن المراجع الأخرى المفيدة أذكر كتاب “الإشعاع المغربي في المشرق” للأستاذ سهيل الخالدي، وهو أحد أحفاد المهاجرين الجزائريين إلى فلسطين من قرية سمخ، وكتاب “المهاجرون الجزائريون في بلاد الشام 1830- 1914م” للدكتورة نادية طرشون. ولا شك أن هناك كتبا أخرى عالجت موضوع هذه الهجرة لكنني لم أطلع عليها. وممّا تجدر الإشارة إليه أن الطرق الصوفية، خاصة الطريقة الرحمانية المنتشرة في منطقة القبائل، قد أدّت دورا بارزا في تشجيع الجزائريين على الهجرة إلى الشام هروبا من الحكم الفرنسي الكافر.
بدأت الهجرة نحو الشام في سنة 1832م، ثم ارتفعت وتيرتها سنة 1847م بفعل جرائم فرنسا الوحشية، وتوسيع الاحتلال نحو منطقة القبائل، الأمر الذي جعل الشيخ المهدي السكلاوي الإيراثني (ولاية تيزي وزو حاليا) يقتنع بالهجرة إلى الشام وينصح مريديه بمرافقته، بعد أن صارت الحياة تحت نير الاستعمار الفرنسي لا تطاق، وكتب الدكتور عمار هلال في هذا السياق: «…وكان لبعض الطرقيّين تأثيرٌ على الطبقات الشعبية، من ذلك تذكر وثائق الأرشيف أن الشيخ المهدي، أحد الطرقيين ببلاد الزواوة، قد استطاع بمفرده أن يبعث عشرات العائلات الجزائرية إلى الهجرة إلى سوريا، وذلك عندما أبدت فرنسا نيّاتها واضحة في احتلال بلاد القبائل سنة 1847م.».
ظلت موجة المهاجرين تتدفق على الشام بأقسامه المختلفة كسوريا ولبنان وفلسطين بتشجيع من شيوخ التصوف ومن السلطان العثماني الذي وفّر لهم الأرض. ويبدو أن خطاب الطريقة الصوفية الرحمانية الداعي إلى مغادرة الجزائر نحو الشام، قد كان له تأثير كبير في منطقة القبائل، وهذا ما أكّده الدكتور عمار هلال بقوله: «وقد واصلت الجمعيات الدينية تشجيعها لهجرة الأهالي إلى المشرق بشكل ملحوظ، ممّا ترتّب عنه انتقال أكثر من ألفيْ (2000) عائلة من بلاد القبائل إلى سوريا، واستقر جلّها إن لم نقل كلها في مدينة دمشق. ومن الطبيعي أن هؤلاء المهاجرين لم يقطعوا الصلة بينهم وبين أهلهم وذويهم في الجزائر، واستمرت العلاقات بين الطرفين ممّا شجع الكثير على شدّ رحالهم والالتحاق بأبناء عمومتهم وإخوانهم في سوريا.».
وكان هؤلاء المهاجرون يصلون إلى الشام عبر ميناء بيروت، وموانئ يافا وحيفا وعكا الفلسطينية بترخيص من السلطان العثماني.

حفيد المهاجرين يدوّن تاريخهم
شاء القدر أن يتصل بي د. عبد الله صلاح مغربي (حفيد أحد المهاجرين الجزائريين إلى فلسطين في القرن 19م) في سياق بحثه عن مسقط رأس أجداده في الجزائر، وأن يُهدي لي كتابه الموسوم: “من جرجرة إلى الكرمل”، جمع فيه ما أمكن من معلومات حول المهاجرين الجزائريين الذين استقرُّوا بأرض فلسطين. وبعد نقاش مطوَّل معه استنتجت أن أجداده ينتمون إلى ناحية إوَاضِيَنْ (ولاية تيزي وزو). والجدير بالذكر أن الدكتور المؤرخ جمال يحياوي قد التقاه في أبو ظبي، وقدّم له معلومات مفيدة مكّنته من زيارة الجزائر.
كانت عائلة عبد الله صلاح مغربي تقيم في مدينة الكرمل بشمال فلسطين، لكنها نزحت إلى لبنان بعد نكبة 1948م، وهناك وُلد هذا الأخير سنة 1954م، ثم هاجر إلى اُستراليا وصار بفضل نجاحه الدراسي من علية القوم وتبوَّأ مناصب عليا في الإدارة والتعليم الجامعي. وفي السنوات الأخيرة انتقل إلى أبو ظبي حيث عمل في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، ثم تحوّل إلى العمل الحكوميّ فصار مستشارا للأمير. ورغم مساره الوظيفيّ الناجح بامتياز، فهو يحمل في دواخله هاجس الهوية المفقودة، لعدم حصوله على الجنسية الجزائرية.

توزيع المهاجرين الجزائريين على قرى فلسطين
وصف عبد الله صلاح مغربي في كتابه المذكور، توزيع المهاجرين الجزائريين على أراضي فلسطين على النحو التالي: «انتشر الجزائريون في مختلف المناطق الفلسطينية مثل الجليل وعكا ويافا والقدس وطبريا وغيرها، تماما مثل ما كانوا ينحدرون من مناطق مختلفة في الجزائر، خاصة المناطق القبائلية منها. ولكن أكبر تجمع لهم استقر في قرى الجليل الأعلى، وضواحي مدن حيفا وعكا وطبرية.». وذكر الكاتب ثلاث عشرة قرية استقر بها المهاجرون الجزائريون، تحدَّث عنها بشيء من التفصيل وهي: بيريا –كفرسبت -شعارة –دَيْشُوم -عمُّوقة -معْذَر-عْوَلمْ –ماروس -تليل- هوشة –الحسينية –سَمَخْ -شفا عمرو. وهناك قرى أخرى كالكرمل التي استقرت بها عائلة عبد الله صلاح مغربي، وقد اضطرت إلى الهجرة نحو لبنان بعد نكبة سنة 1948م، ومن سوء حظ هذه العائلة أن اضطرت بعد انفجار الحرب الأهلية اللبنانية إلى الهجرة للمرة الثالثة، وكانت وجهتها هذه المرة نحو استراليا.

هاجس الحصول على الجنسية الجزائرية
إنَّ أكبر هاجس يؤرِّق أحفاد المهاجرين الجزائريين إلى فلسطين، هو الحصول على الجنسية الجزائرية. لذلك دعا عبد الله صلاح مغربي إلى الاهتمام بالبحث التاريخي لهؤلاء المهاجرين، وكان يتمنَّى لو أدرجت قضية المهاجرين الجزائريين إلى الشام ضمن المفاوضات الجزائرية- الفرنسية، وقال في هذا السياق: «ولعل في دراستنا هذه ما يشجّع الباحثين وطلاب البحث والدراسات العليا، وما يدفعهم إلى الكشف عن جوانب كثيرة من تاريخ المهاجرين الجزائريين في بلدان المشرق العربي، ما زالت في حاجة كبيرة إلى بحث وتنقيب، وأهمّها في اعتقادنا تلك الحقيقة الغائبة في العلاقة بين الدولة الجزائرية بعد الاستقلال وبين فرنسا من جهة، وبعض الجهات العربية من جهة أخرى، حول المهاجرين الجزائريين، هذه العلاقة التي حالت دون الاعتراف بجنسية وهوية الجزائريين المهاجرين في الفترة الاستعمارية».

 يبدو أن خطاب الطريقة الصوفية الرحمانية الداعي إلى مغادرة الجزائر نحو الشام، قد كان له تأثير كبير في منطقة القبائل، وهذا ما أكّده الدكتور عمار هلال بقوله: «وقد واصلت الجمعيات الدينية تشجيعها لهجرة الأهالي إلى المشرق بشكل ملحوظ، ممّا ترتّب عنه انتقال أكثر من ألفيْ (2000) عائلة من بلاد القبائل إلى سوريا، واستقر جلّها إن لم نقل كلها في مدينة دمشق…».

وفي انتظار غد أفضل، دعا عبد الله صلاح مغربي أحفاد المهاجرين الجزائريين الفلسطينيين، إلى التواصل مع موطن أجدادهم، عن طريق ربط الصغار بتاريخ الجزائر وجغرافيتها وعاداتها وتقاليدها، والتمسك بحق المواطنة والجنسية الجزائرية، الذي قد يأتي عن طريق تجسيد اقتراحه القاضي بـ«توسيع حقّ الإقليم في الجنسية الجزائرية، ليشمل فئات عاشت في إقليم الجزائر ردحا طويلا من حياتها، ثم اضطرتها ظروف الفترة الاستعمارية إلى مغادرة الجزائر، مع تقديم وثائق من بلد الاغتراب، تُثبت جزائريتهم، كما يشمل ذلك كل من وُلد في سفينة أو في طائرة، تخصّ الجزائر في هذه الفترة أو ما بعدها، تماما كما هو الحال في قوانين الجنسية في عدد من الدول الأخرى، فهي فئاتٌ أحقّ في الحصول على الجنسية من أولئك مجهولي النَّسب أمًّا وأبا».
يُتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!