-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فلسفة الإصلاح في المشروع النهضوي المستقبلي عند بن نبي

أ.د / سرحان بن خميس - جامعة باتنة
  • 170
  • 0
فلسفة الإصلاح في المشروع النهضوي المستقبلي عند بن نبي

تقوم نظرة مالك بن نبي إلى واقع الإصلاح على أنه محصلة تطور تاريخي طويل، تفهم تجليَّاته من خلال تحليل حقب التاريخ السابقة، والمحددات التي كان لها الأثر في ذلك؛ فإن تصور الواقع الإصلاحي المقبل يجب أن يرتكز على محددات فاعلة تنتمي إلى المستقبل؛ فهي التي سيكون لها الأثر الحاسم في التحولات المستقبلية من دون إغفال لمحددات الماضي.
هذه النظرة المستقبلية لمالك بن نبي ترسم الآفاق التي يجب أن يتجه إليها الإصلاح في المستقبل من خلال الفعل الثقافي، على أساس أن المحددات المستقبلية هي التي لها الدور الأكبر في فهم الوصل بين العقل المسلم والقيمة والحركية التاريخية، ثم إن لها التصور الاستراتيجي في فهم معايير التأصيل، وكذا لها القدرة على معرفة استراتيجية توفير البدائل، وفق التقدم الذي تحرزه الحياة الإنسانية في مختلف المجالات، بالإضافة إلى فقه تكييف الإجراءات، وفحص وجاهة الاستراتيجيات، ومطابقتها للمكتسبات الثقافية، لتستوي مبادئ التأسيس الإصلاحي المستقبلي على سوقها من خلال التفاعل التكاملي المستمر بين التأطير القيمي والحركية التاريخية والإطار الزمكاني.
ولكن مالك بن نبي يميز بين النظر إلى التاريخ باعتباره مجرد حوادث تتعاقب دون ربط جدلي بينها، فهذه النظرة التي تنتج تصورا للتاريخ وكأنه حكم القضاء المبرم والقدر النازل من خارج التاريخ، وبين النظر إلى التاريخ باعتباره سيرا مطردا تترتب فيه الحوادث ترتبا منطقيا، مع اعتبار أن المسألة الإصلاحية ليست فقط مجرد عرض لما ينبغي أن يكون أو لما ينبغي أن لا يكون، بل هي في حد ذاتها عملية تتطلب من المؤرخ تجاوز الأيديولوجي والذاتي، وفهم الحوادث بناء على ظروفها التاريخية والثقافية.
وهنا دعا مالك بن نبي إلى النظر في أسباب واقعية تاريخية تكمن وراء الحوادث، هي مسوغات للمجتمع، تبث الفاعلية بين أحضانه، وكلها تصدر عن سلوكنا، وتنبع من أنفسنا، هي النظرة الثانية التي تجعلنا بدلا من أن تلقي الأحداث على أكتافنا ثقلها، نحدد نحن إزاءها مسؤولياتنا، فبقدر ما ندرك أسبابها ونقيسها بالمقياس الصحيح، نرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا، وبقدر ما نكتشف من أسرارها، نسيطر عليها بدلا من أن تسيطر علينا، فنوجهها نحن ولا توجهنا هي، لأن حركة التاريخ هي حركة الإنسان وفي ركودها ركوده.
ومع الركود الاستسلام إلى القوى الغيبية، وما تفعله في حياة الإنسان دون تدخل منه، أو إلى الصدفة التي يقول بها من لا يؤمن بالغيب، إلا أن بن نبي يجد أن الإسلام استطاع أن يخلق حضارة خلال نصف قرن، لأنه أتى بالمسوغات الدافعة لليد والعقل والقلب لكي تحقق متساندة حضارة ذات إشعاع.
وهنا يميز بن نبي بين المجتمع البدائي الساكن الذي هو مجرد تجمع أفراد، يتشكل بدافع الحاجة والغريزة، وبين المجتمع التاريخي الذي يغير دائما خصائصه الاجتماعية بإنتاج وسائل التغيير، مع علمه بالهدف الذي يسعى إليه من وراء هذا التغيير، فلا تكتسب الجماعة الإنسانية صفة المجتمع، إلا عندما تشرع في الحركة، واللحظة التي يبدأ فيها مجتمع ما حركته التغييرية، هذه هي التي تمثل عند بن نبي لحظة ميلاد مجتمع.
ولحظة الميلاد أو لحظة الحدث تسبق اكتمال المعنى، ثم إن النسبة بين الحدث والوجود هي ما تدرج الوعي في التاريخ، ولأن النسبة لا تنعدم حتى في المهمل من الأحداث، فإن الوعي لا يمكنه الخروج عن الصيرورة التاريخية فهو مدرج فيها باستمرار، وتتدفق صيرورة التاريخ بنفس التدفق الذي يلحق التعبير عن الأحداث من خلال اللغة وهي تقرر الألفاظ، فتتحرك اللغة من الحرف إلى الحرف، والتاريخ من الحدث إلى الحدث.
إن هذه الرؤية التفاؤلية تنتقل بالحتمية من كونها قدرا محددا بأجل محدد كما رأى ابن خلدون، أو قدرا محددا بنمط من أنماط التطور كما رأت المادية التاريخية، تنتقل بها إلى مستوى الاختيار الذي يتقرر في أعماق النفوس كما وصف ذلك بن نبي.
المطلب الثالث: الرؤية المستقبلية للمشروع النهضوي عند مالك بن نبي
لقد تمكن بن نبي من إدراك جيد لمثل هذه العملية التفاعلية واتجاه تطورها أو على الأقل الاتجاهات الممكنة لها، وأمكن له تبيّن فلسفة إصلاحه.
أولا: ركائز فلسفة الإصلاح عند مالك بن نبي
وفي هذا لا بد من التنبيه إلى أن الحديث عن فلسفة للإصلاح يكون مجرد مغامرة خطابية إذا هو لم يستند إلى ثلاث ركائز أساسية: الإدراك الجيد للواقع الماضي، الإدراك العلمي والمنهجي للوحي، وتوافر إرادة الإصلاح بالشكل الذي ينبغي أن يكون.
هي ثلاثية تتفاعل مع بعضها كل منها شرط للأخرى، فإرادة الإصلاح شرط في اتجاه الإدراك السليم للواقع في المشروع النهضوي عند بن نبي ومفاصله، والإدراك الجيد لمفاصل الواقع شرط للإدراك العلمي والمنهجي للوحي، وهو شرط لنجاح إرادة الإصلاح وهكذا.
و تصور مثل هذا التفاعل في عصر بن نبي هو بمثابة تحديد لنموذج إصلاحي، حيث يخضع هذا النموذج لخصائص الواقع الماضي ويستجيب لحاجاته، ولا ندع أنه بإمكاننا الإحاطة به من كل الجوانب ولكن حَسْبنا تحديد ملامحه من خلال مراحله، حيث لم يترك بن نبي للآخر أن يحدِّد له واقعه الإصلاحي ويشكل له بدائل المستقبل، حيث كان بن نبي ينظر إلى المستقبل لا كزمن مجرد إنما كواقع إصلاحي راهن ومُقبل ينبغي استكشاف كنهه والتحكم في أشكاله.
لذلك سنتناول هذه الفلسفة الإصلاحية من خلال عنصرين: يُشكِّل العنصر الأول مكامن التوجه نحو الإصلاح ، أما العنصر الثاني فهو حتمية التخطيط الاستراتيجي.
ثانيا: مكامن التوجه نحو الإصلاح
إن استيعاب ماضي فلسفة الإصلاح في المشروع النهضوي عند بن نبي هو استيعاب لتاريخ هذا الإصلاح، وتاريخ هذا الأخير هو تاريخ العقل الجزائري، والتفاعل بينه وبين السياسات التجريبية منذ نشوء الدولة الجزائرية القطرية؛ هو تاريخ طرق حل المشكلات التي تميزت بأنها واقعية عملية ونظرية على السواء، إنه تاريخ تنامي البنية الاجتماعية وحدودها ومسلماتها وآفاقها المستقبلية(التي تشكل الحاضر بالنسبة إلينا)، إنه تاريخ تطور الموقف الجزائري بإمكاناته الاجتماعية والنفسية من التحديات الاستعمارية.
وكل هذا التاريخ لا يمكن لدراسة أو مقال أن يستقريه، ولكن تصورنا لأهم المحطات والمحددات التاريخية التي كان لها الدور الكبير في صنع الحاضر بالنسبة إلينا يخفف من وطأة تلك التساؤلات الكثيرة عن كل لحظة من لحظات تاريخ الإصلاح في المشروع النهضوي عند بن نبي.
وإذا تساءلنا عن أهم محدد( المحدد الأول) في تاريخ الإصلاح قبل جهود بن نبي، كان الجواب هو المشاريع النهضوية الجزائرية للمدرسة الإصلاحية، فما كانت فلسفتها الإصلاحية ؟
لم تأت الإصلاحات لبعض رواد الإصلاح في الجزائر قبل جهود بن نبي إلاّ كرد فعل محدود التأثير على السياسات الاستعمارية الهمجية، أضف إلى ذلك تركيبها الانتقائي التوفيقي؛ إذ لم تستطع هذه الإصلاحات أن تسيطر على نتائج إصلاحاتها في واقع جزائري تتقاذفه الفتن الداخلية والخارجية.
أو أنّ تقدم -لانتقائيتها وتوفيقيتها- ردًا كليا على التدهور، بل ظلت تتناول الجوانب كلا على حدة بطريقة مجزأة دون اتخاذ منهج للرد الكلي، ودون التنقيص من قيمة تلك الإصلاحات.
ثالثا: فلسفة الإصلاح وحتمية التخطيط الاستراتيجي
تميز الإصلاح الجزائري في عهد بن نبي بانشداده إلى المستقبل أكثر من انشداده إلى الماضي، بالنظر إلى المعطيات والحوادث التي طرأت عليه في شكل تحدِّيات جديدة، وبالتالي فالعناصر الفاعلة فيه هي التي لها علاقة بالمستقبل.
محدد رئيسي كان له الدور الحاسم في تشكيل تصور لفلسفة الإصلاح في المشروع النهضوي المستقبلي عند بن نبي ألا وهو التخطيط الاستراتيجي.
فهذا المحدد إذ يحدد فلسفة الإصلاح في المشروع النهضوي المستقبلي (من زاوية تصور الواقع في تفاعله مع الوحي و العقل) و يؤطر حركته التاريخية في المستقبل المنظور، فهو يرسم في الوقت نفسه الآفاق التي يجب أن تتجه إليها فلسفة الإصلاح عند بن نبي من أجل بناء المستقبل، وذلك لأن فلسفة الإصلاح لا تتساءل فقط عما يكون عليه المستقبل باعتبار بنية الأحداث والاتجاهات التاريخية فحسب، بل عما تريد-هذه الفلسفة- أن يكون عليه هذا المستقبل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!