الرأي
في صحبة موسى والخضر

فواصل التّكليف وعلم الكشف

أبو جرة سلطاني
  • 722
  • 5

المفارقة العجيبة في هذا اللّقاء، هي بيان ما بين علم الشّريعة والعلم اللّدنيّ من مسافات عقديّة جعلت هذا اللقاء مفتاحًا لفهم جزء مهمّ من طلاقة علم الله، المحيط بكلّ شيء، لتدرك الإنسانيّة أنّ ما بين أيديها من علم ظاهر لا يعدو كونه قطرةَ ماء في محيط لجيّ تمتدّ من ورائه أبحر كثيرة من علوم الغيب لا يعلم عمقها وجريانها وتلاطم أمواجها إلاّ من أحاط بكلّ شيء علما: ((وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)) (يوسف: 76).

من أجل رسم الفواصل الواضحة بين العلم الذي يتمّ به التّكليف والعمل، وبين ما تخبّئُه الأقدار في طيّ الغيب جاءت هذه القصّة لتأخذ حيّزا واسعا مقسّما إلى ثلاثة مقاطع موضوعيّة؛ مقطع تضمّن البحث عن مجمع البحريْن واللّقاء وتحديد شروط عقد تحصيل العلم. ومقطع سرَدت فيه رحلة العلم وبدائع ما حدث فيها من مشاهد. ومقطع تمّ فيه تأويل ما لم يستطع موسى -عليه السّلام- عليه صبرًا، لغرابة ما شهدته عيناه من تصرّفات الخضر منذ بداية اللقاء إلى إعلان نهاية الرّحلة. فعِلم الكشْف عمّا وراء الحدث غيبٌ لا يستقلّ العقل بإدراكه لأنه ليس وسيلة للهداية. ولم يأمر الله أحدا بإبلاغه للنّاس، ولا يترتّب على تعليمه حكم شرعي؛. فالله -جل جلاله- لم يرسل رسولا بعلم الكشْف، ولم يأمر نبيّا بتعليمه للناس.

بفقه هذه المعاني الكليّة يصبح الجدل حول صفة الخضر -رضي الله عنه- لا معنى له ولا جدوى من ورائه، فأيّا ما كانت صفته ومقامه عند الله وقربُه منه وتخصّصه بعلم لم يأمر رسله بتبليغه، فهو مطالب بأنْ يؤمن بنبيّ زمانه ويتّبعه وينصره. فإذا مدّ الله في عمره حتى أدرك زمن بعثة رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- على رأي الجمهور، فيتوجّب عليه شرْعا الإيمان برسالته واتّباع ملّته ونصرته ووضع علمه في خدمة دعوة الإسلام، إذا طلبها منه رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-، أو نبْذ ما عنده من علم جانبا إذا أمره النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- بذلك كما فعل مع الفاروق عمر -رضي الله عنه- لما رآه يتأبّط صحيفة من بقيّة ما ترك موسى –عليه السّلام-، وهو الأصل في الإيمان والاتّباع والنّصرة. روى أحمد في مسنده عن جابر -رضي الله عنه- قال: أتى عمر بن الخطاب النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- فغضب وقال: “أ تتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضا نقيّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذبوا به أو بباطل فتصدّقوا به. والذي نفسي بيده لو أنّ موسى كان حيّا ما وسعه إلا أنْ يتبعني”، وفي رواية له بلفظ: “والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتّبعتموه وتركتموني لضللتم؛ إنّكم حظّي من الأمم وأنّا حظكم من النّبيّين”؛ فهل بقيّت مسكة من عقل تحيل على مرجع غير الوحي بذريعة أنّ موسى -عليه السّلام- شدّ رحاله إلى الخضْر -رضي الله عنه- ليأخذ عنه “علم الحقيقة” بعد أن استكمل بالوحي تحصيل علم الشّريعة؟

أ يعقل أنْ يخرج الخضر عن عموم البعثة والرّسالة في زمن موسى -عليه السّلام-، ثمّ يمدّ الله في عمره حتى يدرك زمن محمّد –صلّى الله عليه وسلّم-، على رأي بعض الفرق، ولم يظهر له أثر في مرحلة التّأسيس ولا في بداية نزول الوحي ولا في أيّام الحصار الظّالم في شعب أبي طالب ولا ليلة الهجرة، ولم يشهد أيّ غزوة من غزوات الإسلام من بدر إلى حُنين.. ثم فجأة يظهر بعد وفاة المصطفى –صلّى الله عليه وسلّم- ليقدّم التّعازي للصّحب الكرام؟!

جوابنا: أنه من الشّطط تخصيص الخضر بعلم الحقيقة التي احتاج موسى -عليه السّلام- استكمال دينه بها، وكأنّ الشّريعة ليست حقيقة، أو هما علمان منفصلان.

مقالات ذات صلة