-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في رحاب الزاوية الصيفية بأعالي جرجرة

في رحاب الزاوية الصيفية بأعالي جرجرة

تلقيت دعوة من معمرة (زاوية) سيدي علي أويحيى، عرش آث كوفي بأعالي جرجرة، لحضور حفل انطلاق الزاوية الصيفية المخصّصة للشباب في فصل الصيف، كان ذلك السبت الفارط 15 جويلية 2023م.

ومن الطبيعي أن ألبّي دعوة القائمين على شؤون هذه المعمرة بكل فرح وسرور، لحضور انطلاق الدورة التكوينية الصيفية لسنة 2023م الخاصة بشباب الوطن، وهي سُنّة حميدة سنّتها معمرة سيدي علي أويحيى تحت إشراف الشيخ السعيد قاضي، ودأبت على تنظيمها في كلّ مواسم الصيف، على غرار الجامعة الصيفية.
كيف لا ألبي الدعوة وأنا مقتنع كل الاقتناع بأهمية هذه المبادرة التربوية باعتبارها قيمة مضافة في عملية إصلاح المعمرات وترقيتها في منطقة الزواوة، فهي تمكّن الشباب (ذكورا وإناثا) من نهل ما تيسّر من علوم الدين في عزّ عطلة الصيف؟ ومن أين لي أن أرفض الدعوة وثقافة المعمرة (الزاوية) تملؤني وتسري في عروقي، إذ كانت منهلا لأبناء قريتي غرفوا منها التربية والتعليم منذ زمن بعيد؟
لذلك لا يسعني إلاّ أن أقدم كلمة شكر وتقدير لمسيّري معمرة (زاوية) سيدي علي أويحيى، الشيخ السعيد قاضي وأبنائه، والشيخ عبد الرحمن مصطفاوي،على جهودهم التربوية الهادفة إلى ترقية الخدمات التعليمية التي تقدمها المعمرة للشباب القادمين إليها من كل ولايات الوطن، دون أن أنسى المحسنين الذين يرافقون هذا الجهد التربوي بمالهم الحرّ لوجه الله. ورجاؤنا أن تتوسّع هذه المبادرة التربوية إلى باقي المعمرات.
من حسنات هذه الدورة التعليمية الصيفية أيضا، تمكين الحاضرين (طلبة، أساتذة وفي مقدمتهم محمد الهادي الحسني، أولياء طلبة، سلطات محلية، محسنون، مسؤول معمرات ولاية تيزي وزو سي محمد أمزيان، ضيوف) من التلاقي للإفادة والاستفادة والتعارف.. فبارك الله في جهودكم أيها الساهرون على ترقية التربية والتعليم في هذه المعمرة العريقة التي يعود تأسيسها إلى القرن 15 الميلادي، مع العلم أن عمّي محمد الصديق فراد قد درّس فيها في مطلع القرن العشرين. ومن شأن المثابرة على هذه الجهود التربوية أن تقضي على ظاهرة العزوف التي تعاني منها المعمرات في منطقة الزواوة (القبائل).

 كان عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يوصي خيرا بمعمرات الزواوة، تقديرا لدورها الرائد في تحفيظ القرآن للناشئة، وكان يواظب على زيارتها حسب شهادة الأستاذ المجاهد محمد الصالح آيت الصديق الواردة في مؤلفاته. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الشيخ البشير الإبراهيمي -خليفة بن باديس في رئاسة جمعية العلماء- قد درّس لبعض الوقت في معمرة سيدي علي بن الشريف بقرية إشلاظن (أقبو، ولاية بجاية).

بالنظر إلى تجربتي الطويلة في قطاع التربية والتعليم، فإنني أقترح إثراء برنامج الزاوية الصيفية، وذلك بإضافة “مادة التاريخ” تُخصَّص للحديث عن دور الزوايا التاريخي في نشر العلم والدين وتكريس السلم والوئام في المجتمع، ورفع راية الجهاد في القرون الماضية ضد الاحتلال الاسباني الذي احتل بعض المدن الجزائرية الساحلية في القرن 16م، وضد الغزو الفرنسي للجزائر في القرن 19م. ولمّا كانت الجزائر في تلك العهود القديمة تعاني من غياب دولة مركزية قويّة تحمي الوطن، فقد قامت الزوايا بسدّ هذا الفراغ بنجاح لقرون عديدة. ولعل أبرز مثال على ذلك، إسهام شيوخ الزوايا وطلبتها في تحرير مدينة وهران من قبضة الاحتلال الاسباني سنة 1792م في عهد الباي محمد بن عثمان الكبير.
ومن شأن إدراج هذه اللمحة التاريخية أن يعلم أبناؤها أن شيوخ الزوايا هم الذين واجهوا الاحتلال الفرنسي في كل أرجاء الوطن، طيلة القرن 19م بعد هروب الداي حسين، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الأمير عبد القادر، والشيخ بومعزة، والشيخ بوعمامة، والشيخ بوزيان، والشيخ ناصر بن شهرة، والشيخ محمد بن عبد الله، وغيرهم… وقد أكد الضابط الفرنسي جوزيف نيل روبان (1837-1918م) الذي كتب كثيرا عن تاريخ المقاومة الشعبية في منطقة الزواوة (القبائل)، دورَ المعمرات (الزوايا) الرائد في قيادة الجهاد منذ من نزول الجيوش الفرنسية الغازية بشبه جزيرة سيدي فرج في جوان 1830م، إلى انتفاضة 1871 العارمة، ذاكرا مقاومة الشريف بوبغلة (1849-1854م)، ومقاومة الحاج أعمر مقدم زاوية سيدي عبد الرحمن الجرجري (1856-1857)، وفاطمة أنسومر، والشيخ الصديق بن أعراب مقدم معمرة ثيزي راشد (عرش آث يراثن) التي كانت بمثابة جامعة يقصدها الطلاب من كل حدب وصوب.
وقد أدرك الاستعمار دور الزوايا الرائد في المقاومة الشعبية، لذلك واجهها بعنف رهيب وُصف بـ”سياسة الأرض المحروقة”، تمّ بموجبها تدمير عشرات المعمرات، وقتل علمائها ونفيهم وتهجيرهم، فمنهم من سيق سجينًا إلى جزر كاليدونيا الجديدة البعيدة مثل الشيخ موحند وَعْلِي أوسحنون، ومنهم من أرغِم على الهجرة إلى الشام في مقدّمتهم الشيخ المهدي السكلاوي الإيراثني. وقد أشار أبو يعلى الزواوي إلى بعض هؤلاء العلماء في كتابه الموسوم: “تاريخ الزواوة” الصادر في دمشق قبل سنة 1920م. هذا ولم يكتف الاستعمار بتدمير المعمرات ونفي علمائها فقط، بل قام بتأسيس مدارس فرنسية لتكريس الغزو الفكري الفرنسي في المنطقة. وأكد من جهته الشاعر إسماعيل أزيكيو المعاصر لانتفاضة 1871م، تدمير وتخريب المعمرات كجزء من العقاب المسلط على السكان الذين استجابوا لنداء الجهاد الذي رفعه شيوخ المعمرات (الزوايا) وفي مقدمتهم الشيخ محمد أمزيان الحدّاد.
نجم عن السياسية القمعية الاستعمارية، خفوت دور المعمرات (الزوايا) في المجتمع، بفعل انحطاط طرائق التدريس، وهجرة العلماء إلى تونس والمغرب وإلى الشام. ورغم ذلك فقد ظلت تعلّم القرآن كحدّ أدنى لنشاطها، لذلك كان عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يوصي خيرا بمعمرات الزواوة، تقديرا لدورها الرائد في تحفيظ القرآن للناشئة، وكان يواظب على زيارتها حسب شهادة الأستاذ المجاهد محمد الصالح آيت الصديق الواردة في مؤلفاته. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الشيخ البشير الإبراهيمي -خليفة بن باديس في رئاسة جمعية العلماء- قد درّس لبعض الوقت في معمرة سيدي علي بن الشريف بقرية إشلاظن (أقبو، ولاية بجاية)، التي أنجبت علماء كثيرين مازالت مؤلفاتهم الكثيرة في الحساب والرياضيات والفلك والعلوم الشرعية قابعة على رفوف مكتبة جامع القرويين بمدينة فاس بالمغرب الشقيق، حسب شهادة الباحث الشاب عبد الرحمن دويب.
من جهة أخرى، أدلى السيد حسين آيت أحمد (أحد رموز الحركة الوطنية وثورة نوفمبر) بشهادته في كتاب مذكراته، أكد فيها أن معمرة سيدي عبد الرحمن اليلولي قد فتحت أبوابها أمام المناضلين الوطنيين، لتوعية طلبتها بأهمية احتضان الحركة الوطنية الهادفة إلى تحرير الوطن من نير الاستعمار، في عهد الشيخ أرزقي الشرفاوي الأزهري. وممّا يؤكد وفاء المعمرات للوطن، تقديمها قوافل من الشهداء، وتعرّضها للتدمير والتخريب خلال سنوات ثورة نوفمبر 1954م. وهل يمكن نسيان اغتيال الشيخ الطاهر أوعيسى مقدم معمرة ثيمليلين (دائرة تيڤزيرت، ولاية تيزي وزو) في مطلع شهر أكتوبر 1956م من طرف الجيش الفرنسي بطريقة بشعة، عقابا له على نصرته للمجاهدين؟ أو لم يكن الشيخ الطاهر آيت علجت (مقدم معمرة سيدي يحي العيدلي بدائرة آقبو) رفيقا في الجهاد لقائد الولاية الثالثة التاريخية العقيد الشهيد عميروش؟
لن اكتفي بتقديم اقتراح إدراج “تاريخ المعمرات (الزوايا) ودورها في التنوير والتحرير” ضمن برامج “الزاوية الصيفية” التي تنظمها معمرة سيدي علي أويحيى فقط، بل أضيف إلى ذلك أنه من باب الإنصاف أن تفكر وزارة التربية في إدراج هذا التاريخ الذهبي ضمن البرامج التعليمية، خاصة ونحن نعلم أن الكثير من رموز المقاومة الجزائرية لهم صلة وثيقة بالزوايا بطريقة أو بأخرى، وفي مقدمة هؤلاء الأمير عبد القادر مقدّم الطريقة القادرية. ومن الإجحاف اختزال الزوايا في صورة سلبية كانت تشكّل حالة شاذة في تاريخها، والشاذ يُحفظ ولا يقاس عليه كما قيل.
وفي الأخير لا يفوتني أن أترحّم على الأستاذ المفكر مولود قاسم نايت بلقاسم الذي حاول في زمانه ترقية المعمرات (الزوايا) إلى معاهد عصرية، فقد صحّ العزمُ عنده، لكن خصوم الأصالة كانوا له بمثابة حجر عثرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!