الرأي

في زاوية أولاد صالح

إن نِعَمَ الله ـ عز وجل ـ على الناس لا تحصى ولا تستقصى، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن من حكمته وراء هذه النعم هي ابتلاء الناس هل يكفرون أم يشكرون أم يصبرون إن قدر عليهم في بعض تلك النعم.

من الناس من آتاه الله مالا كثيرا، ومنهم من آتاه جاها وسلطانا كبيرا، ومنهم من آتاه علما غزيرا، ومنهم…ومنهم…والفرق بين هؤلاء الناس هو في كيفية التصرف في تلك النعم، فمنهم من يوجهها في الخير فينال محمدة في الدنيا وإن لم يكن مسلما أو من الذين يراءون، وينال الذكر الجميل في الدنيا والأجل الجزيل في الآخرة إن كان مؤمنا وقصد وجه الله الكريم فيما عمل من خير..

وقد نبّه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن قدمي ابن آدم لا تزول يوم القيامة من عند الله ـ عز وجل ـ حتى يسأله عن بعض ما أنعم به عليه، فيسأله عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم…

وممن عرفناه في الآونة الأخيرة عبد من عباد الله، دعانا إلى خير فأجبناه، إنه الحاج محمد رحمون رئيس “زاوية أولاد صالح”في بقعة الرحامنة، ببلدية الحجاج، بولاية الشلف.

لقد ابتلى الله ـ العليم الخبير ـ هذا العبد بالخير فلم يطغ، ولم يتخذه الشيطان سخريا، ولم يجعله من إخوانه، فوجه ذلك الخير وجهة حسنة، نفع به العباد وأرضى به الرحمان.

لقد أقام الحاج محمد رحمون صرحا عظيما يبهج النفوس، ويشرح الصدور، ويسر الأنظار، وهذا الصرح ليس قصرا ممردا، ولكنه زاوية لتعليم القرآن الكريم، يأتيها الطلبة من كل فج عميق فيجدون المأوى الآمن، والغذاء النافع، فيتفرغون لحفظ كتاب الله ـ عز وجل – ثم يتفرقون في أنحاء الجزائر ليعلموا الناس ما تعلموه.

تحتوي الزاوية على مسجد جميل، “تتجمع فيه كل فنون الإسلام” كما قال المفكر الفرنسي رجاء ڤارودي، وتحتوي على قاعة للمحاضرات، وأقسام للتعليم، ومراقد للطلبة، ومرافق أخرى، ومساكن للمعلمين ولمن تستضيفهم الزاوية..ولا يخلو ذلك كله من لمسات جمالية…

وقد وقف الحاج محمد أوقافا على الزاوية تزودها ببعض ما تحتاج إليه، وما يغنيها عن مد يدها إلى غيرها الذين قد يمنون عليها إن لم تطاوعهم فيما يشتهون.

لقد تفضل الحاج محمد رحمون، رئيس الزاوية، فدعا كوكبة من الأئمة الكرام، والأساتذة الأفاضل يتقدمهم الأستاذ الدكتور عبدالرزاق ڤسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وذلك لإحياء يوم العلم، الذي اختير له يوم وفاة معلم الجزائر الأول، الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي كان يمارس خمسة عشر درسا يوميا (1) كما شهد بذلك تلميذه الشيخ، مبارك الميلي، فاستحق أن يتخذه الجزائريون رمزا للعلم، لأنه أخرجهم من الجهل، ونبههم من الغفلة، وأنقذهم من الأوهام، وحررهم من الخرافات، التي نرى بعضها يعود إلى مجتمعنا بتشجيع ممن لا يحبون الإسلام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فيقلق السراق، ويزعج الفساق الذين يشجعون ماسماه أحدهم lIslam tranquille

لقد رحب الحاج محمد في كلمة قصيرة بضيوف الزاوية بعدما طاف بهم أرجاءها، وشكر لهم تلبية دعوته، وأبدى استعداده للتعاون على الخير، وتعهد بوضع الزاوية في خدمة كل نشاط علمي.

ثم توالى المتكلمون ومنهم الدكتور عبد الرزاق ڤسوم، والأستاذ أبواسماعيل حجوجة، وهو من إخواننا الميزابيين الذي يدعو دائما إلى الوحدة الوطنية والأخوة الإسلامية، مذكرا بقول أحد علماء المذهب الإباضي، وهو: “إن مذهبي هو الإسلام”، ومما ألح عليه المتدخلون هو اليقظة لإفشال مخططات المتآمرين على الجزائر ووحدتها الوطنية والدينية تحت شعارات براقة، سواء كان هؤلاء المتآمرون من “الجزائريين” الخائنين لوطنهم، أو من أعدائها الطبيعيين، الذين لن ينسوا هزيمتهم في الجزائر، بفضل القرآن الكريم والإسلام الحنيف، حيث تنبأ الضابط / الراهب / الجاسوس شارل دوفوكو في سنة 1912، في رسالة بعثها في 11 / 12 / 1912 إلى صديقه فيتزـ جيمس يقول له فيها إن لم نستطع تنصير الجزائريين في خلال خمسين سنة فسيستعملون الإسلام لطردنا من إمبراطوريتنا الإفريقية.

ومن أجمل ما وقع على هامش هذه الندوة إعلان أحد الأمريكيين إسلامه في الزاوية، حيث نطق بالشهادتين في المسجد أمام جمهور كبير، وهو مدرب في رياضة كرة السلة، ولما سئل عن سبب إسلامه قال بأن سبب ذلك يعود إلى ما رأى المسلمين عليه في بلده من أخلاق جميلة ومعاملات طيبة.


لقد كان الإمام ابن باديس يقسم الدعوة إلى قسمين:

*) دعوة العلماء، كل في ميدانه ومجاله، وهؤلاء يدعون بالعلم، والجدال بالتي هي أحسن.

*) ودعوة عامة المسلمين ـ ذكرانا وإناثا ـ وذلك بتخلقهم بأخلاق الإسلام، ومعاملة غير المسلمين المعاملة الطيبة، ولو تخلق المسلمون الذين يعيشون في بلدان غير مسلمة بأخلاق الإسلام لدخل الناس أفواجا في دين الله، ولكن أكثر المسلمين في البلاد المسلمة أو في غيرها هم كارثة الإسلام الكبرى… وهذا ما أكده الإمام محمد عبده الذي قال “إن الإسلام محجوب بالمسلمين”، فكثير منهم يكذبون، ويغشون، ويخدعون، ويحقدون، ويسرقون، ويفسدون في الأرض، ويرتشون، ويحتكرون، ويأكلون الربا، ويزوّرون، وينشرون الأوساخ… وكل أولئك مما يصد عن دين الله، الذي يحرم كل تلك الرذائل، ويكره مقترفيها.

إن كل ذي نعمة محسود، ومن الحسد إطلاق بعض الناس ألسنتهم في الزاوية بقالة سوء دينيا ووطنيا، مما يزهد فيها ويصد الناس عنها، فليتق الله أولئك الذين يفعلون ذلك، ويقفون ما ليس لهم به علم، وليتذكروا قول سيدنا رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنه لا يكب الناس على وجوههم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم.


أرجو من الإخوة القائمين على الزاوية أن يستغنوا عن كلمة “الذكر” الواردة في اسم الزاوية، وذلك لسببين:

*) إن القرآن الكريم هو الذكر، وهو أفضل الذكر وأشرفه، حتى إن حرفا واحدا منه بعدة حسنات، وذلك لأنه كلام الله ـ عز وجل ـ وهو أعلى وأغلى من كل شيء.

*) قد يأتي أحد من الناس فيستغل كلمة”الذكر” الواردة في اسم الزاوية فيرجحها، ويلهي بها عن القرآن الكريم، وقد رأينا بعض الزوايا لا تُعنى إلا بأذكار وأوراد، وفي بعضها ما يحدث تشوشا في عقول الناس وقد يفسد عقيدتهم.

ومن أحسن ما سمعته أن الشيخ محمد بلكبير في أدرار مرّ ـ رحمه الله ـ على تلميذ فوجده ماسكا سبحة يذكر بها، فقال لذلك التلميذ الذي جاء من شرق الجزائر: “إنك جئت إلى هنا للتعلم، أما الذكر فبإمكانك أن تبقى في بلدتك وتذكر كما تشاء وقتما تشاء”.

وفي الأخير، اعملوا آل صالح شكرا، واستعينوا بالله، واصبروا على ما تسمعون من أذى، فما يقال لكم وفيكم إلا ما قيل وما يقال في العاملين.

1) جريدة البصائر. ع 97 ـ في جانفي 1938 ص 2 .

مقالات ذات صلة