جواهر
وجهات نظر

فِي صِنْف “القِطَّة تَاكُلْ عْشَاهَا”

أماني أريس
  • 3250
  • 39

هل تراهنون على ثبات فضائل تصنعها الظروف والبيئة؟ هذا السؤال أخلّ بترتيبه في طابور الأفكار، وتَقَدّمها لحوحا ليطرح نفسه على بعض الرجال الذين يصرّحون بأنّهم يفضلون الزواج من فتاة متوسطة التعليم أو حتى أميّة، وربما يضيفون عليها شروط صغر السنّ وانتسابها لعائلة متوسطة الحال أو فقيرة، وتسكن في قرية أو منطقة ريفية؛ على الزواج من فتاة شربت من جامعتها ومدينتها التمرّد والانفساخ، وتشبّعت بثقافة مناطحة الرّجل قرنا بقرن.

أسباب نفسية عميقة هي تلك التي تجعل رجلا متعلّما عصريا، يفكّر بهذه الحسابات الساذجة في مسألة الزواج؛ إنّه يعبّر عن مدى حاجته للأمان والبساطة والاستقرار، وهو مطلب مشروع لولا أنّه يستند إلى منطق أعرج؛ كونه يعتقد أن البيئة والظروف يصنعان أخلاقا وفضائل حقيقية ثابتة وجديرة بالثّقة، لكنّه غالبا ما يكتشف مع الزّمن حجم خطئه في التّقدير.

هذه القضية عالجتها رواية بعنوان “وجهان في المرآة” وتروي قصّة رجل تقدّمت به السّن ولم يتزوّج، فبدأ يبحث عن فتاة تناسبه، ولْيكن بها نقص ما لتحقّق له الأمان والسعادة الزوجية، بدل فتاة جميلة متكبّرة، لا ينتظر منها سوى الخيانة، ورصاصة الرّحمة في أيّ لحظة…هكذا كان يفكّر صاحبنا! فعثر على فتاة اسمها ماري جوزي من عائلة متواضعة، وتتصف بأنف كبير منفّر، وكان سعيدا جدا لكونها هادئة، وديعة، خجولة، لا تحبّ السّهر والرقص والاختلاط مع الرجال، فتزوّجها وأنجب منها ولدين، وعاش معها في سعادة غامرة لفترة من الزمن، قبل أن يقود إليها القدر صدفةً جرّاح تجميل، فيقنعها بإجراء عملية جراحية على أنفها، فتصبح فاتنة، وتنفتح عيناها على ذات لم تكن تعرفها وتقدّر قيمتها من قبل، فتخلع عنها رداء الخجل والتّواضع وتنقلب إلى امرأة متغطرسة، خائنة مزهوّة بجمالها وهالة العشّاق والمعجبين من حولها..لقد تبخّرت فضائلها بتغيّر ظروفها!

خيبة أمل مشابهة عاشها الكثير من الرّجال، الذين راهنوا بسذاجة على أخلاق الأمّيّة والرّيفية والفقيرة والصّغيرة، وما إن يظنّ أحدهم أنّه اختار امرأة من صنف “القّطّة تاكل عشاها” “وعجينة طريّة” و”عافية” وأنّ الفردوس بجلالتها ونعيمها وأمانها قد استقرّت في بيته، حتّى تكشف له عن وجه آخر يريه الجحيم بأهواله، فيترحّم حينها على من كان يعتبرهن متمرّدات ومتكبّرات. ويكتشف أنّه أفلس في صياغة معادلة غير قابلة للموازنة. وهذا لا يعني أن الرّهان دائما خاسر فالتجارب تختلف، والكلام ليس استهدافا لأي من النّساء المذكورات.

هذا الموضوع يحيلني للتأمّل في كلام أجدادنا، والذي أجده لا يقلّ عمقا عن كلام أشهر المفكرين والفلاسفة. لأنّه وحي البداهة وهي أقوى المعارف على الإطلاق، وعندما تدعمها عصائر التّجارب تصبح حكمة حياة لا يشقّ لها غبار، وببداهة أدرك أجدادنا أنّ “الزّواج مثل البطيخة” وأنّ النّفوذ إلى لبّ البطيخة لمعرفة لونها، وطعمها، وعمرها من خلف قشرتها الخضراء الثّخينة فراسة لا يملكها الجميع، حتى لو قضوا ساعات في الجسّ والتقليب!

اختيار إنسان ليكون شريك حياة لا يشبه اختيار ثوب وفق معايير الشّكل والمقاس واللّون والسعر المناسب، هو خاضع لمعايير نفسية وما أصعبه من اختيار؛ ذلك أن الإنسان كائن مزاجي متقلّب يعتريه الضّعف، ويطرأ عليه التغيير، ولا عالم بحقيقة أخلاقه، وفضائله ومصيرها، وعمر ثباتها سوى الله عزّ وجل. لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو دائما وبكل تواضع بالثبات في العقيدة والدّين، كما يدعو بالسّداد والتوفيق ويستخير الله في كلّ أموره.

مقالات ذات صلة