قراءة في مستقبل قطاع التربية(3)
3- تربية لأي زمن؟حاولنا في الأسبوعين الماضيين الإجابة عن مجموعة من الأسئلة ذات الصلة بمستقبل التربية في بلادنا. وقد تم إثراء إجابتنا بعدد من الأفكار لا يسعنا إلا التنويه بجديتها وأهميتها خاصة فيما يتعلق بتشخيص الوضع. ويتعلق الأمر بأكثر من 16 اقتراحا وجيها سجلناه، نرى إمكانية الاستفادة منه لمن أراد أن يقرأ (تابع التعاليق الإلكترونية). ولعل هذا هو بيت القصيد. يبقى اليوم أمامنا أن نُقدم محاولة للإجابة عن السؤال الأخير الذي طرحناه معا في الأسبوع الماضي: متى ينبغي علينا أن نحقق ما نريد من التعليم وما موقع التلميذ منه؟
يرتبط هذا السؤال بالمدى الزمني الذي ينبغي أن تتحرك ضمنه أي إستراتيجية موجهة للتعليم في بلادنا، ذلك أنه لا يمكننا أن نتحدث عن إصلاح خارج الزمن أو قبل الزمن أو بعده، بل ينبغي أن يكون ضمن الزمن الحقيقي الذي نعيشه أو سنعيشه في المستقبل من جانب أولى، باعتبار أن مهمة التعليم هي في حد ذاتها مهمة مستقبلية وليست مرتبطة بالحاضر أو الماضي فقط ،إلا إذا أردنا عمدا تشويهها. إذ ما الفائدة من تعليم لا يهدف إلى التأثير في المستقبل أو لا يكون من بين مهامه تكوين جيل يستطيع أن يتحكم في مستقبله دون تنكر لماضيه وفي إدراك واقعي وموضوعي لحاضره؟
لذا يصبح لزاما علينا اليوم أن نكون مُدركين للمرحلة التاريخية التي تعيشها أمتنا ويعيشها العالم، وتكون واضحة أمامنا وبشكل جلي التصورات المستقبلية لقطاع التربية والتعليم كما يخطط لها الآخرون باعتبار أن أي سياسة تعليمية ستكون بدون فعالية وستُسفر عن تكوين جيلٍ يعيش على الهامش إذا لم تأخذ بعين الاعتبار البدائل التي تطرحها الأمم الصناعية اليوم لهذا القطاع وتسعى لأن تجد الآليات التي تمكنها من أن تكوِّن، في ذات الوقت، الجيل الذي تريد والجيل القادر على الصمود والفعل مع الأجيال التي ستتقاسم معه الحياة في المستقبل، سواء أكان ذلك داخل النطاق الحضاري الذي ينتمي إليه أو خارج هذا النطاق. وهو الذي نُسمِّيه بالتكيف الفعال مع الزمن القادم الذي سيعيش فيه أبناؤنا.
ومما لا شك فيه أن الأمم الصناعية اليوم لديها تصورات تصل إلى قرن قادم من الزمن لما سيكون عليه التعليم عندها، ذلك أنها تدرك أنها لن تستطيع البقاء إذا لم تستبق هذا الأمر بالذات. ولعل هذا ما جعلها تهتم بمستقل التعليم خلال القرن الحادي والعشرين وأبعد من ذلك في دراسات وأبحاث يكاد الاتفاق بشأن جديتها وجدواها يكون شاملا. ولعل مجال الاهتمام هذا يعد من أبرز المحاور التي تناولتها الدراسات الاستشرافية في الغرب، ويفترض أن تكون لدى وزارتنا على الأقل هيئة لمتابعتها لأجل معرفة البدائل التي يتصورها الآخرون لهذا القطاع في المستقبل المباشر والمتوسط والبعيد، لأن التعليم عندنا ينبغي أن يُكوِّن أجيالا لأزمنة غير زماننا نحن، وعلينا أن لا نكون سببا في حرمان هذا الجيل أو ذاك من أن يكون ابن عصره بل ومتفوقا بين أبناء عصره، وإلا نكون قد أعددناه للفشل أكثر من النجاح.
وعليه يكون من المناسب أن أذكر في هذا المستوى بأن تتبع مسار التربية والتعليم في الغرب يوصلنا إلى نتائج مرتبطة بالزمن. ومن بين أكثر المسارات المثيرة للانتباه ما تم تلخيصه في أحد أهم مؤلفات الاستشراف حول سنة 2100 في الغرب تحت إشراف تيري غودان، الذي قاد فريق بحث استشرافي لمدة 10 سنوات حول مستقبل القرن الحادي والعشرين بأكمله ووصل إلى تقديم مشاهد مستقبلية أثبتت الأيام، لحد الآن، أنها كانت قريبة جدا مما تحقق في الواقع باعتبار أن الدراسة تمت بداية التسعينيات عن الـ 100 سنة القادمة ولدينا الآن نحو ربع قرن لنحكم عليها.
إذا أخذنا هذه الدراسة كعينة ـ من بين ما هو متوفر لديناـ فإننا نجدها قد تصورت مستقبل قطاع التربية في الـ 100 سنة القادمة كالتالي:
ـ 1900ـ 1940: التعليم كان لائكيا قاعديا في الولايات المتحدة وأوربا واليابان (مجتمع الإنتاج) 1 .5 مليار نسمة في العالم
ـ 1940ـ 1980: صعود قوي للجامعات ومأسسة البحث (مجتمع الاستهلاك).
ـ 1980: 2020: فوضى وتنافس للوسائط المتعددة وعجز في المعرفة التطبيقية (مجتمع الاستعراض أو المشهد) Société du spectacle
2020 ـ 2060: تحكم جديد في التعليم وسيادة العولمة الافتراضية (مجتمع التعليم)
2060 ـ 2100: ظهور التعليم الممتع لتطوير الشخصية وعودة للأخلاق والتحكم في قواعد السلوك المجتمعي والتحكم في تقنيات البقاء (مجتمع الإبداع).12.5 مليار نسمة في العالم.
انطلاقا من هذا التصور، الذي قد نتفق معه أو نختلف، ومن غيره ينبغي أن ننطلق لربط سياسة التعليم ببلادنا مع الزمن القادم. وهو ما دعانا إلى طرح أهمية متابعة استشراف الغرب لمختلف قطاعاته ومن بينها التعليم لأجل المقارنة والتكيف والخروج بخلاصات تمنعنا من التلاعب بمصير الأجيال القادمة أو تركها عرضة لأن تكون فئران تجارب كما حدث أكثر من مرة.
يكفي أن يوافق فريق من باحثينا وكفاءاتنا الوطنية المهمشة في معظمها لهذا السبب أو ذاك على أنه يجري تشكيل العالم بهذه الصفة أو تلك خلال الخمسين سنة القادمة لكي نصوغ سياستنا في قطاع التربية بما يحصن الأجيال المستقبلية ويمكنها من أن تكون فاعلة حقيقة في عالم القرن الحادي والعشرين. أما إذا لم نفعل وبقيت سياسة التعليم محكومة عندنا بالظرفي والمؤقت والاستجابة لنزوات الأفراد أو لمجموعات ذات أفق ضيق أو محصورة في الزمان والمكان فإننا سنهدر إمكانيات ضخمة بشرية قبل أن تكون مادية وسنحرم ابن السنة اليوم من أن يكون فاعلا حقيقة في مجتمع سنة2040 أي سيكون جامعيا، في غالب الأمر، ولكنه يعيش على هامش التطورات في العالم بل عبئا لا يمكن تحمله مهما كانت لدينا من إمكانيات.
أما إذا كان العكس وقمنا ببناء إستراتيجية تعليمية تأخذ بعين الاعتبار متغير الزمن من خلال السيناريوهات الأكثر ترجيحا في هذا الميدان ـ وليكن السالف الذكر الذي اعتمده فريق بحث تيري غودان بعد مقارنته بنتائج فرق بحث أخرى في آسيا وأمريكا الشماليةـ فإننا سننطلق من قاعدة أساسية تقول: أننا سندخل في الـ 20 سنة المقبلة إلى مجتمع التعليم ومن ثم فإنه سيكون القطاع الأول عند رسم إستراتيجيتنا المستقبلية، ثانيا أن التعليم في المستقبل سيركز على وسائل الإمتاع وسيهدف إلى تهذيب السلوك ويمكن صاحبه من التحكم في تكنولوجيات البقاء في إطار مجتمع الإبداع. وهي عناصر بلا شك كافية لتُحيلنا إلى موروثنا التاريخي والحضاري وتجعلنا في وضع أفضل لاستثمار قدراتنا المادية اليوم للالتحاق بمجتمع الإبداع بعد 40 سنة من الآن، وذلك ليس بالبعيد بالنسبة لتاريخ شعب أو دولة.
وهكذا نصل إلى الخلاصة التي يُفترض أن نصل إليها: أننا إذا كنا قد وضعنا المعلم في قلب الإصلاح الحالي قبل الوسائل والإمكانيات، يبقى التلميذ هو غاية الإصلاح عندما يتعلق الأمر بالمستقبل، ذلك أنه هو المعني به أكثر منا نحن، بحكم سنة الحياة والخلق والوجود… وفي ذلك عبرة لمن أراد أن يعتبر.