قصّة الصّراع بين الشّيطان والإنسان (الحلقة الثانية)
قصّة الصّراع بين الشّيطان والإنسان، قصّة ليست ككلّ القصص. قصّة كانت ولم تزل وستبقى أحداثها مستمرة إلى يوم القيامة. قصّة صراع أبديّ بدأ مع خلق أبينا آدم عليه السّلام. وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويدخل أهل الجنّة الجنّةَ، وأهل النّار النّار. ويقوم اللّعين في جهنّم خطيبا بين أتباعه خطبة البراءة والحسرات.
أخرج الله تبارك وتعالى آدم وحواء من الجنّة دار الجزاء. وأنزلهما إلى الأرض دار الامتحان والبلاء. ونزل معهما إبليس. ومن يومها بدأت معركة الشيطان مع ذرية آدم. وبدأ كيده ومكره. وبدأت خططه ومؤامراته. فهو الذي أغرى قابيل بقتل أخيه هابيل. وهو الذي سوّل لقوم نوح الغلو في عباد الله الصالحين من أمثال ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر. وجعلهم يصورونهم ويجعلون لهم التماثيل ليتذكروهم بعد وفاتهم، ثمّ تدرّج بهم حتى عبدوا تماثيلهم من دون الله. وزين لهم تكذيب نبي الله نوح عليه السلام ومعاداته. وهو الذي زين لقوم عاد وثمود عبادة الأصنام وتكذيب رسل الله. وهو الذي سول لقوم إبراهيم عبادة الأصنام والكواكب والنجوم. وسول لهم محاولة قتل نبيّ من أنبياء الله. وهو الذي سول لقوم لوط إتيان فاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين. وهو الذي سوّل لإخوة يوسف الكيد لأخيهم. وهو الذي سوّل لقوم شعيب الإفساد في الأرض وقطع الطرق وتطفيف الكيل والميزان. وهو الذي أغرى فرعون بالعلوّ في الأرض حتى قال أنا ربكم الأعلى.
وهو الذي أغرى بني إسرائيل وسول لهم عبادة العجل. وسلطهم على أنبياء الله، فكذبوا من كذبوا وقتلوا من قتلوا منهم، وجعلهم يبوؤون بلعائن الله بعد أن كانوا من صفوة عباد الله. وهو الذي ألب قريشا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فكذبوه وآذوه وأخرجوه وحاربوه. وهو الذي أغرى الأمم بأمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم، فتكالبت عليها وتنادت لحربها من كلّ حدب وصوب. وهو الذي سلّط ذريته على أمّة محمّد عليه الصّلاة والسّلام، فكان منهم المستكبرون والمعرضون والمتمرّدون. وزيّن لكثير منهم الدّنيا وأغراهم بها فتنافسوها وتقاتلوا عليها وقطعوا لأجلها الأرحام، وسلّموا لأجلها أراضيهم لأعدائهم، وباعوا دينهم لأجل عرض منها قليل.
إنّه ما من شرّ وقع أو يقع في هذه الأرض إلا وإبليس وراءه، فهو الذي سوّل لبني آدم الشّرك بالله. وهو الذي علّمهم السّحر والكهانة. وهو الذي أوجد لهم البدع وزيّنها لهم. وهو الذي أغراهم بالكبائر كالزنا والفاحشة والقتل والعقوق وغيرها. وهو الذي أغراهم بالصغائر وسهل أمرها عليهم. وهو الذي ألقى عليهم غشاوة الغفلة وأنساهم ذكر الله وأنساهم الموت والقبور والنشور والحساب والجنّة والنّار. وهو الذي أوجد لهم بالتعاون مع جنده من شياطين الجنّ والإنس، المذاهب الهدّامة من إلحادية وشيوعية واشتراكية ورأسمالية وعلمانية وباطنية. وزيّن لهم الفواحش وذلّل لهم طرقها وجعل لها دعاة يدعون إليها ويزينونها.
يبدأ إبليس حربه مع كلّ مولود يولد من بني آدم فينخزه إيذانا ببدء معركته معه، ثمّ تستمرّ معركته مع المولود فيُنسي والديه تربيته وتحصينه من كيده، ويلهيهما بطعامه وشرابه ولباسه وألعابه، حتى يكبر ولا مكان للدين في حياته، فتسهل عليه بعد ذلك قيادته حيث يريد.
يبدأ الشّيطان معركته مع ابن آدم فيحاول جهده أن يوصله إلى الإلحاد وإنكار وجود الخالق، فإن لم يستطع حاول إيقاعه في الشرك بالله بتعظيم شأن المخلوق وتهوين شأن الخالق عزّ وجلّ، فإن لم يستطع حاول إيقاعه في البدع المضلّلة التي يظنّ معها أنّه يحسن صنعا، فإن لم يستطع حاول إيقاعه في كبائر الذنوب والمعاصي، فإن لم يستطع دعاه إلى الصّغائر وهوّن أمرها عليه، فإن لم يستطع حاول إلقاء غشاوة الغفلة على قلبه، لينسى ذكر الله وينسى الموت.
وهو في كل ذلك لا ييأس من بلوغ هدفه الأسمى وهو جعل الإنسان يخسر دنياه وأخراه ويخلد معه في نار جهنّم. ومهما تفلّت الإنسان من كيد الشّيطان واختار طريق الصّلاح والاستقامة ونأى بنفسه عن طرق الشرّ والغواية، فإنّ الشّيطان لا ييأس من إفساده، ولو فرّ بدينه وخلا بنفسه، فيأتيه وينظر مواضع الضّعف في نفسه، ويبدأ في التدرّج معه خطوة خطوة، حتى يبلغ مراده.. لأجل هذا حذّر المولى ـجلّ وعلا ـ من اتّباع خطوات الشّيطان فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)).
لا يتنازل الشّيطان عن هدفه ولا ييأس من بلوغه، حتى يسلم العبد الروح إلى بارئها، بل في لحظات النزع الأخير وفي سكرات الموت، يأتيه ويحاول جاهدا أن ينقله عن الحقّ إلى الباطل. وبقدر ثبات الإنسان في هذه الحياة على دينه يكون ثباته في تلك اللّحظات، وبقدر اعتصامه بالله يكون ثباته وتكون نجاته من كيد إبليس وجنده في هذه الحياة؛ يقول الحقّ تبارك وتعالى: ((إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون)). لهذا، ينبغي لمن أراد النجاة من كيد الشّيطان أن يعتصم بالله ويستعين به ويتولاه ويتوكّل عليه، ويسأله الهداية والاستقامة والثبات حتى الممات.