الرأي

قمة جبل الثلج!

حمزة يدوغي
  • 956
  • 4

يؤكد الكثير من المفكرين أن “الشيخوخة المبكرة” التي بدأت تظهر على الحضارة الغربية هي نتيجة طبيعية للأسس الكبرى التي قامت عليها هذه الحضارة التي قطعت صلتها بالسماء وعبدت الإنسان والعلم سخِرت من الدين؛ فقد انبعثت فيها مملكة المادة واتسع نفوذها وأصبحت متفردة بالزعامة في توجيه الفكر والتشريع للبشرية كلها في مجال القيم وتصدير “الأمراض الحضارية”؛ والظاهرة التي أسرعت اهتمام أولئك المفكرين تتمثل في الإقبال المتزايد على الإسلام من قبل الغربيين وكأن صوت الفطرة المكبوت زمنا طويلا بدأ يخترق حجب المادة، وأصبح إنسان هذه الحضارة المادية المدين في الأمس البعيد للعالم الإسلامي بنهضته وتقدمه يلتفت إليه اليوم من جديد ليستمد منه روح الحياة الذي قضت عليه حضارته!

هذا الصوت المكبوت نجد لهأصداءفي كتابات مبكرة لمفكرين ولأدباء غربيين، وهم إذا كانوا لم يعلنوا صراحة إيمانهم بالإسلام بديلا منقذا لحضارتهم فإنهم قد قدموا ناقوس الخطر بقوة عندما أبدعوا في تصوير مأساة الإنسان الغربي نتيجة خوائه الروحي وغربته القاتلة وإحساسه العميق بالضياع وعبثية الحياة!

قال كونستانتان جيورجيو الكاتب القس الروماني وهو يصف أزمة الإنسان الغربي على لسان بطل عمله الأدبي الشهيرالساعة الخامسة والعشرون“: “إنني أشعر أن حدثا خطيرا قد وقع حولنا، إنني أجهل أين انفجر ومتى بدأ وكم سيدوم لكنني أشعر بوجوده! إنني أشعر بهذا الحدث شعورا لا يماثله إلا إحساس الجرذان المسبق الذي يدعوهم إلى هجر مركب على وشك الغرق، لكن لن يكون لنا أي مأوى في أي مكان من العالم!”

نعم!، ليس هناك مكان يأوي إليهالإنسان الماديلأنه هارب من دمه، وأين يمضي هارب من دمه؟!

لقد سحقه غرور العلم يوم ظن أنه انتصر على الدين الذي تضاء في أعين الغربيين أمام التضخم الآلي الذي وعده بالقوة والسعادة، لكنه في النهاية لم يورثه سوى أعصاب مرهقة وارتفاع في ضغط الدم وقلق وجودي مدمر لأنه فقد الإيمان الذي هو  أخص خصائص الإنسان!

قال توفيق الحكيم في كتابهتحت شمس الفكر“: “الذكاء ليس بالمزية التي اختص بها الإنسان وحده، والنظام الإداري المحكم أو الاقتصادي الكامل ليس وقفا على المجتمع البشري؛ فإن مجتمع النحل لأدق منا نظاما في الإدارة وإن مجتمع النمل لأدق إحكاما منا في الاقتصاد؛ ولكن الذي يميزنا نحنمعاشر البشرهو الإيمان!

فما من مجتمع غير مجتمعنا البشري اهتدى إلى ذلك الإيمان الديني، لأن حياة الروح لم يلج بعد بابها سوى الإنسان!”.

صوت آخر يحذر من قرب النزيف الداخلي للإنسان الغربي وهو صوت كولن ولسون في كتابهسقوط الحضارة، فقد قال: “لقد استطاع فرويد وكارل ماركس أن يقنعانا بأن جميع البشر متشابهون وأنهم يخضعون لمؤثرات نفسية واقتصادية واحدة فإذا كان اللا منتمي الحديث لا يجد في العالم غير التفاهة فذلك لأن تربيته وكذلك الظروف المحيطة به جعلته لا يرى في التركيز الذهني أي معنى رغم أن ذلك هو مفتاح الدين كله!”.

وشاهد آخر هو المؤرخ أرنولد توينبي الذي قال: “إن الكسل والفراغ عنصران خطيران من عناصر الانحلال والتدهور، وكما حدث وأن أسقط هذان العنصران حضارة روما، فإنهما يقومان اليوم بدور خطير لإسقاط الحضارة الغربية المعاصرة، والحق أن هاتين المشكلتين لا خلاص منهما مادامت الحضارة مصابة بالخواء الروحي وفقدان الهدف من مسيرة العالم، إن المخلّص الوحيد هو الدين!”.

هذا ما انتهى إليه توينبي.. خلاص الإنسان الغربي في الدين.. ولكن أي دين؟! كيف يبحث عنه وكيف يعتنقه؟! يقول العالم الأمريكي جورج بلانطإن كون العقيدة الإلهية معقولة وكون إنكار الإله سفسطة لا يكفيان ليختار الإنسان جانب العقيدة الإلهية لأن الناس يظنون أن الإيمان بالله يقضي على حريتهم، تلك الحرية العقلية التي استعبدت عقول العلماء واستهوت قلوبهم، وإن مجرد التفكير في مصادرة هذه الحرية يثير الوحشة عندهم!”.

إن المتأمل في هذه الكلمة يدرك بسهولة أن ما صوره صاحبها إنما هو موقف العلماء منبعض المتدينينالذي يسيئون تمثيل الدين، وليس موقفا من الدين نفسه! بمعنى أن الإنسان الذي يجهل الدين ولم يتصل بمصادره الصحيحة الأصيلة فإنه يحكم على هذا الدين من خلال سلوك أهله ودعاته وممثليه؛ ومن خلال تفكيرهم وأنماط عيشهم؛ والدليل على ذلك أن هذا العالم الذي يرفض الدين عندما نسأله عن السبب فإنه يجيبنا جوابا ينسجم مع نفسه فيقولأنا أرفض الدين لأنني غير مستعد لإلغاء عقلي أولا، وحسّي الحضاري ثانيا وذوقي الجمالي أخيرا!”

وعندما التأمل ندرك أن هذهالصفاتالتي عددها أوالملكاتالتي يراها هي جوهر الإنسان الذي لا يكتمل من دونها تكوينه ووجوده، لم يجدها عند من يخاطبونه باسم الدين، فاستقر في ذهنه أن الدين يعادي الحرية والعقل والجمال والفن!

فالذي يظهر من معاناة الإنسان الغربي المتجذرة في أعماقه، من خلال إنتاجهم الفكري والأدبي والفني هو بمثابةقمة جبل الثلجالتي تبدو على سطح المحيط المتجمد!

والمنقذ هو الدين، والدين عند الله الإسلام، والمسؤولون عن حسن عرضه وتبلغيه هم المسلمون المنتمون إلىخير أمة أخرجت للناس، فهل في مقدورهم اليوم ذلك؟! وهل يدركون بوعي كامل أن هذهالخيريةإنما هي بالريادة لا بالوراثة؟!

مقالات ذات صلة