-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قواعد المنهج في حركة نبي الله يوسف (1/2)

التهامي مجوري
  • 532
  • 0
قواعد المنهج في حركة نبي الله يوسف (1/2)

يوسف عليه السلام، قبل أن يكون نبيا من أنبياء الله، هو إنسانٌ كغيره من البشر، تسري عليه قوانين الله في الوجود كما تسري على غيره من البشر، فقد عاش في أسرة: أبوّة وأمومة وأخوّة؛ بل عاش مؤامرة لا يتعرض لها الناس في العادة بالصورة التي قصها علينا القرآن الكريم، وهي تآمر إخوته عليه بمحاولة القتل، وكما عاش مع الناس يأخذ ويعطي ويلاحظ ويعلق على نشاطاتهم…

وعندما ينتقل إلى مقام ومرتبة النبوّة، تكون له خصائص بقدر ثقل التكليف الذي خُصَّ به كنبيٍّ وصاحب رسالة، في إطار الواقع الذي عاش فيه زمانا ومكانا وحالا… فهو خليفة في الأرض بموجب بشريته ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)) [البقرة 30]، ومكلف من قبل الله كنبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل ((كَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [يوسف 6].

ما هي هذه الأطر الخاصة والعامة التي عاشها نبي الله يوسف عليه والسلام؟ وما يمكن أن يقتبسه منها القياديون والرساليون من أهل العزائم الذين على عاتقهم مَهمَّة الإصلاح والتجديد والنهضة؟ ذلك ما يحاول بسطَه وعرضه الأستاذ الدكتور الطيب برغوث في كتابه: “قواعد المنهج في الحركة الحضارية ليوسف عليه السلام”، معملا منظوره الفكري الذي أطلق عليه مصطلح “منظور السننية الشاملة”.

منطلقاتٌ وأهداف

يعرض الكتاب قواعد المنهج في حركة يوسف -عليه السلام- الحضارية منطلقا من الأهداف التي خطها نبي الله لنفسه مستندا إلى قواعد ومسلّمات أساسية يسلم بها الرساليون عادة في مشاريعهم الإصلاحية النهضوية التغييرية، إذ انطلق يوسف -عليه السلام- من خط الإسلامية على خُطى أسلافه من الأنبياء والمرسلين.

والإسلامية كما هو معروفٌ هي الخط الأصيل والثابت السنني المطّرد، سواء من الناحية الكونية الاضطرارية وهي أن كل شيء أسلم لله سبحانه ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)) [آل عمران 83]، أو من الناحية العقدية التشريعية الاختيارية ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) [آل عمران 19]، ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [آل عمران 85]. وذلك هو التطبيق العملي لمراعاة المفردات السننية، وهي سنن الله الشاملة المتمثلة في:

–          الاستخلاف: الابتلاء، والتدافع والتداول والتجديد.

–          منظومات سنن التسخير: سنن الآفاق، والأنفس، والهداية، والتأييد.

–          سنن منهجية التغيير: سنن الفهم، والقدوة، والدعوة، البناء، المواجهة، الوقائية.

وهذه السنن جميعا مارسها نبي الله في معاملاته كلها وتطبيقاته في شؤونه الحياتية كلها، رغم المحن التي مر بها، سواء في الإطار العائلي فيما بينه وبين إخوته، أو في إطار محنته مع امرأة العزيز وما ترتب عن ذلك أيضا من استعباده وبيعه مثلما يباع العبيد، أو في دخوله السجن بتهمة عارية وظلم مبين.

الأهداف الوسيطة

لا شكّ أن تصرفات النبي يوسف عليه السلام، سوف تكون وفق منظومة السنن التي بنى اللهُ عليها حركة الكون وما فيه ومن فيه، ومن ثمّ حرص الكاتب على ألا يكون كتابُه مجرد عرض لتجربة خاضها النبي يوسف وكفى، إذ تكون مجرد قصة يتسلى بها القارئ عند اطِّلاعه على تفاصيلها، وإنما يكون في شكل عرض تجربة تربوية رسالية قابلة للتكرار على أيدي الدعاة والمصلحين والرساليين، ولذلك راح يبحث ويدقق في تفاصيل هذه القصة ليستخرج لنا القوانين الثابتة في هذه التجربة ليهتدي بها أهل الدعوة وغيرهم من المتصدِّرين لعملية النهضة والإصلاح والتجديد، ولذلك كانت البداية من عرض فكرة المنطلق والمصبّ كما يقال، وبحكم أن المنطلق يمثل المبدأ العامّ والمصبّ هو الهدف والغاية التي لأجلها وُجد هذا الإنسان، كان لا بدّ من المرور بالأهداف الجزئية المرتبة ترتيبا منهجيا وفق الأهمية والأولويات لتكون أهدافا وسيطة من أجل الوصول إلى الأهداف الكبرى التي يهدف إليها الرساليُّ، كما طبقها يوسف -عليه السلام- في مسيرته الدعوية.

والأهداف الوسيطة كثيرةٌ جدا يصعب حصرُها، وهي ليست مجرد وسائل يمكن الاستغناء عنها، وإنما هي أهداف تأخذ صورة الهدف المرحلي وليس الهدف النهائي، وهي ضرورية في الاستعانة بها لبلوغ الأهداف الكبرى والغايات السامية… قد تبدو مخلّة بالمبادئ والغايات، كما وقع لبعض المفسِّرين في فهمهم لقوله تعالى ((وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)) [يوسف 42]، على أن لبث يوسف في السجن بضع سنين عقابا له لكونه لم يتَّكل على الله! في حين أن الحقيقة هي استثمارٌ جيد في العلاقات الإنسانية، أن الذي خرج من السجن له مكانة في القص، وقول يوسف له “اذكرني عند ربك”، أي اذكر ما تعرف عني، إذ بذكر ذلك يكون قد اخترق المؤسسات الرسمية بحضور اسمه بين أهل القصر، فيصبح لاسمه حضور في الواقع، وذلك ما وقع بالفعل، رغم أن الذي نجا من السجن نسي الوصية، التي ذكرها بمجرد إعلان الملك عن رؤياه ((وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)) [يوسف 43]، فتذكر الرجل يوسف بعد مدة ((وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)) [يوسف 45]… وكان ما كان بعد ذلك.

المرجعية التاريخية

ومن بين الوسائل المساعِدة على استحضار الأهداف الوسيطة وأعْمَلَها يوسف عليه السلام، الخبرة التاريخية بوصفها مرجعية لا يمكن الاستغناء عنها؛ بل هي خبرة تاريخية لا تغني عنها النبوة التي مستندها الوحي الإلهي، لكون الخبرة التاريخية في حد ذاتها مصدرًا للمعرفة واكتشاف القوانين الثابتة في حياة الإنسان.

وبحكم أن الطبيعة البشرية متقلبة وغير قابلة لأن تكون نسخا بعضها من بعض، تقرر في المنهج اليوسفي إعمالُ قيمة أخرى، لا تقلُّ أهمية عن غيرها من الفضائل المعهودة في مثل هذه التجارب والخبرات، وهي قيمة الموازنات؛ لأن الواقع الذي كان يعيش فيه النبي يوسف -عليه السلام- ليس له صورة واحدة، بل هو صورٌ مختلفة ومتنوعة، ومن ذلك أنه كان نبيا موحِّدا في وسط لا يؤمن برسالته، وما يرضاه هذا المجتمع لنفسه ليس بالضرورة مما يرضاه يوسف له بوصفه صاحب رسالة، ولا يرضاه لنفسه بوصفه فردا فيه، ومن ثم لجأ إلى مبدإ إنساني وهو مراعاة الظروف والواقع من غير إهمال للثوابت الراسخة التي تنطلق من المبادئ والغايات السامية ظرفية كانت أو غائية… (يُتبع، بإذن الله).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!