الرأي

قيم التعلّم في زمن كورونا

هلع كبير لدى الأولياء أثاره انقطاع التلاميذ عن مدارسهم بسبب الوضع العام الناجم عن تداعيات كورونا، وطفى السؤال المؤرّق لديهم: ماذا عن مصير أبنائنا في الأٌقسام النهائية؟ وماذا عن امتحانات الانتقال إلى الطور الأعلى؟، وعلى رأسها أقسام شهادة التعليم الثانوي، حتى استبدّت الإشاعات بقلوب الكثير منهم، كأنّ الأمر منذرٌ بنهاية الوجود عندهم.

لا ننكر أنّ مثل هذا الذعر الاجتماعي في بُعده المدرسي مشروع في ظل الظروف القائمة، غير أنّ زمن كورونا قد فتح الأعين والبصائر على اختلال كبير في ترتيب القيم والأولويات لدى الأفراد كما الدول، وما يعنينا هنا هو العلاقة الجدليّة بين التعليم والتعلم.

إذا أردنا أن ننظر إلى الأزمة من زاوية موضوعية، تتعلق بحقيقة التعليم كمفهوم قيمي في ثقافة المجتمع، سنجد للأسف أنه يرتبط في تعريف الغالبية بالنجاح المدرسي وتحصيل الشهادة تلو الشهادة للظفر في نهاية المطاف بوظيفة مهنيّة أو ترقية اجتماعية لا غير، ومثل هذا التحديد المنفعي لغايات التعليم يُعدّ إجحافا وقصورا في الإحاطة بالمنزلة المطلقة للمعرفة، كمحصلة ثقافية لعملية تعلّم أبديّة مفتوحة على الزمان والأجيال، لا تمثل الشهادات سوى محطات عابرة في مسارها الطويل.

بمعنى آخر، هل ينزعج الأولياء من قتل أولادهم للوقت في سائر أيام السنة قبل وبعد جائحة كورونا، اعتقادنا أنّ الأغلبية غير مُبالية إلا من رحم ربّك، وفي أحسن الأحوال يقع التركيز على المتابعة الموسميّة بمناسبة الامتحانات المدرسيّة، أما خارجها فإنّ العلاقة السلوكيّة بالتعلّم في كل صوره غير حميميّة، لأنها في مرتبة ثانوية جدا على سلّم الأولويات بسبب طغيان وسائل الترفيه، وقد تكون أحيانا في حالة خصومة معه، بفعل انقلاب موازين القيم الثقافيّة نحو الفكر المادّي.

ما يعيشه التلاميذ وأولياء الأمور هذه الأيام من حرص ملحوظ على الارتباط بالبرامج الدراسية لاستدراك الزمن الضائع ليس استثناء وسط الوضع العام، فقد استيقظت كذلك السلطات العمومية على  حقيقة تخلفها التعليمي وفق معايير العصر الرقمي، حيث تتوجه “القرية الصغيرة” نحو عالم بلا مدارس، فقد راحت وزارة التربية تحاول بخطى متعثّرة وبطيئة تقديم دروسها وأنشطة تعلُمِيّة أخرى عبر التلفزيون، ومنصات النتّ، بينما الأصل أن تكون مثل هذه المبادرات من أدوات العملية البيداغوجية طوال السنة، عوض أن تأخذ مكانها المحاشر والمخافر والمستودعات باسم الدروس الخصوصيّة.

ولم يشذّ الأفراد المتعلمون عن لحظة اليقظة العامّة، فعاد كثيرهم إلى ملامسة الورق العتيق وتصفّح الكتب المنسيّة والإبحار في الشبكة العنكبوتية خارج مواقع التواصل الاجتماعي، بحثًا عن معرفة مهجورة منذ أمد طويل، نتيجة الانغماس في نظام العمل اليومي والاستغراق في فوضى الحياة الخاصّة وضغطها الشديد، دون ضبط دقيق لتفاصيلها ومتطلباتها الشاملة.

إنّ ما فرضته أزمة كورونا من حيرة المجتمع الآنية على مستقبل أطفال المدارس، وما أثارته من تفطّن الحكومة لطرق التعلّم البديلة أو المكمّلة على الأقلّ، وما حفّزته فينَا من رغبة عميقة في القراءة، يجب أن يتجاوز تداعيات الحجر الصحي المفرزة للفراغ الإجباري، إلى حالة من الوعي المستديم، بضرورة الانتقال من التعليم المدرسي والجامعي الموسمي، القائم على المقررات المحدودة والبرامج المقيدة والشهادات النسبيّة إلى جعل الكسب المعرفي سلوك فضوليّ أبديّ يلازم حياتنا في كل المراحل والمستويات المهنية والاجتماعية، لأنّ تقدم المجتمعات لا يحصل إلاّ بالارتقاء المفتوح في مدارج الثقافة والمعرفة، كمفهوم علمي وفنّي وتربوي، وتحصيلها هو نتاج عمليّة ممتدّة ومتفاعلة مع الواقع، حيث تأبى التوقف في منتصف الطريق.

الخلاصة هو أنّ المناهج التعليمية العصرية عبر العالم، وفي كافة المستويات، وفق أحدث النظريات البيداغوجية، لم تعُد تلقّن العلوم لمرتاديها إلاّ في حدودها الدنيا، لأنّها تخلّت عن الحشو والتلقين ضمن مهامها الحديثة، لتتكفّل بترويض العقول على المناهج النقديّة والبحثيّة، فاتحةً أمامها آفاق المعرفة بلا حدود، بعدما مكّنتها من الأدوات التقنيّة للكسب العلمي.

ولذلك وجب اليوم تصحيح النظرة الخاطئة، أو بالأحرى المتخلفة عن زمانها، بتطبيع العلاقة الفرديّة والأسريّة والمؤسساتيّة مع طلب العلم، بتجريده من الخلفيات الماديّة والتقييد الزمني، ليصبح بعد كورونا جزء عضويا وحيويّا ملازمًا لحياة قطاع واسع من المجتمع، ولو ترتقي هِممُنا إلى هذا الحلم البعيد، فإن المحنة ستكون فعلاً منحة ربانيّة.

مقالات ذات صلة