الرأي

كتاب الله وقرآن بوكروح 2/2

التهامي مجوري
  • 3608
  • 0

إن الذي أنزل القرآن موزِّعا آياتُهُ وسورُهُ على المواقع التي هي عليها الآن في مصاحفنا، هو الذي اختار لما أنزل الترتيب الذي بين أيدينا لحكمة يعلمها سبحانه، وما أدركنا من هذه الحكم إلى اليوم، لا يزيد عن أذواق أدبية وفنية للنص القرآني، وربما بعض الكشوفات للطبيعة البشرية، في بعديها النفسي والإجتماعي، وبعض الآيات أو الخوارق العلمية، رغم أنه مصدر معرفي للإنسان لا يقل أهمية عن الخبرة التاريخية التي عرفها الإنسان في تجربته الطويلة، ومن ثم فالقرآن كتاب هداية وإلى جانب ذلك، واحد من مصادر المعرفة الإنسانية الثلاثة، وهي الوحي والخبرة التاريخية والكون، وليس خاصا بالمسلمين وحدهم، كتاب مقدس مفصول عن الحياة، ولا يحسن التعامل معه إلا المؤمنون به، والذين يحسنون التعامل مع المطلقات.

يقول بوكروح إن إعادة النظر في ترتيب القرآن لا تغير من جوهره شيء، فآياته تبقى هي آياته وعددها 6236 آية، وسوره هي سوره وعددها 114 سورة، وإنما الذي يتغير هو فهم القرآن، ويقول عن نفسه هو، أنه عندما قرأ القرآن وفق تاريخ النزول تغيرت نظرته للواقع.

وهذا الكلام بعضه صحيح، ولكن بوكروح لم يقل لنا، هل تغير فهمه إلى الأحسن أم إلى الأسوأ؟ فهو يرى بلا شك أن التغير وقع له إلى الأحسن، ذلك لأنه انطلق من الواقع، ليفسر به الأمور التي يريد معالجتها، بينما هذا الواقع تحكمه قواعد وضوابط متنوعة، منها المتخلف الذي لا يعول عليه في فهم الوجود فضلا عن أن يكون حاكما على القرآن، ومنها المتحضر، وهذا الواقع المتحضر الذي يحكم العالم اليوم، لا علاقة له بمنظومة القرآن المعرفية، وإنما الحكم فيها للواقع الذي تنظمه منظومة معرفية أخرى لا علاقة لها بالقرآن، وإنما تعتمد الواقع حكما على القرآن، وليس العكس القرآن حكما على الواقع.

وهذه الدعوة تعتمد على مدارس العلوم الإنسانية الغربية، ومنها على وجه الخصوص مدرسة المستشرقين، وتلامذتهم من أبناء المسلمين، امثال محمد أركون رحمه الله، الذي أتوقع ان بوكروح التقط هذه الأفكار منه ، وإلى حد ما ممثل اليسار الإسلامي حسن حنفي، وغيره ممن لا يتسع المجال لذكرهم، وأصول هذا التوجه، هو المادية التي لا تعترف بمصدرية الوحي في عالم المعرفة الإنسانية، وإنما تكتفي بمصدرية “الخبرة التاريخية والكون”، اما الوحي فمهمته تنظيم الأمور الغيبية والعلاقة بين العبد وربه، وذلك لا علاقة له بالإجتماع والثقافة والسياسة والاقتصاد وما إلى ذالك من الأمور، وإنما مجاله عاقة الإنسان بربه، بعيدا عن الحياة.

وإذا كانت منظومة الغرب المعرفية “جذبية” كما يقو مالك بن نبي رحمه الله، فإن ثقافتنا الإسلامية مبنية على مصادر المعرفة الثلاثة هي كما ذكرنا آنفا، الوحي والكون والخبرة التاريخية، وكل تحييد لواحد من هذه المصادر يوقع الإنسان في حرج وفي انحراف عن الجادة، وما يدعو إليه بوكروح لم ينكر صراحة مرجعية القرآن ومصدريته، وإنما جعل الواقع والكون سيدان على القرآن، بحيث لا تبقى للقرآن سيادة فوقية أو حتى مساوية للكون والخبرة التاريخية، ذلك ان إعادة ترتيب القرآن حسب تاريخ النزول، يربط الناس بالحادثة، وذلك يحد من إطلاقية النص الثابت وهيمنته على الواقع المتغير، ومن ثم يمكن الاستغناء عنه شيئا فشيئا، فإقامة الحدود مثلا، قطع يد السارق وجلد الواني وقتل القاتل، كانت مناسبة في تلك المرحلة البدائية، اما اليوم وقد تطورت الأمور فلا داعي لإعادتها، والربا منعه القرآن لما كانت البشرية تستغل بعضها البعض، واما الآن فبحكم التطور وتقدم البشر في توفير الضمانات الاجتماعية، وتولي الدول إدارة البنوك، لم يعد الربا مضر بالإنسان كما كان، ومن ثم فلا معنى لبقاء تحريمه… وهكذا، وفي النهاية لا يبقى من القرآن إلا آيات متعلقة يترسيخ بعض القيم او قصصا لبعض الوقائع التاريخية التي يمكن الاستغناء عنها بالحفريات وغيرها من انشطة علماء الآثار والتاريخ.

إن الكلام عن ترتيب القرآن وفق تاريخ النزول ليس جديدا، وإنما هو باب من أبواب علوم القرآن، بحيث لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب علوم القرآن، وإنما كان  ولا يزال المشتغلون بالفكر الإسلامي، يناقشون الموضوع من داخل المنظومة المعرفية القرآنية وليس من خارجها ولم يبحثوه على حساب المصحف الإمام، الذي هو أساس هذه المنظومة، ولم يبحثوا في إطلاقية القرآن وحدودها، لأن كل ذلك عند المسلم من المسلمات، فلا أحد يناقش في صحة ترتيب القرآن، ولا في أهيمة تاريخ النزول، ولا أحد يجادل في هل القرآن مطلق أم محدود الدلالات في الألفاظ والمعاني، وبحكم ان هذا الموضوع الآن، ليس بحثا متخصصا لأغوص فيه وفي استحضار مصادره ومراجعه، وإنما للتدليل على اهتمام العلماء المسلمين بالقرآن وفق ترتيب النزول، ولكن انطلاقا من منظورهم المعرفي القرآني، اقتصر على ذكر جهدين عظيمين لمعاصرين وهما الاستاذ محمد عزت دروزة، الذي كتب تفسيرا سماه “التفسير الحديث”، وهو تفسير وضعه في عشر مجلدات وفق تاريخ النزول، وكذلك الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني, رحمهما الله، ولكنهما لم يكتباه ليكون تفسيرا بديلا للتفاسير التي وضعت وفق ترتيب المصحف الإمام، ولذلك لم يدعيا أنهما جاءا بجديد؛ لأنهما لا يعتقدان أن لذلك فائدة كبرى إضافية على ما في التفاسير الأخرى، إلا فيما يتعلق بترتيب أحداث السيرة النبوية، وذلك في تفسير الآيات التي نزلت متعلقة بأحداث السيرة والقصص التاريخي وعلاقته برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، كقصة الفيل وسورة الأنفال وقصة يوسف…إلخ، وكل ذلك لم يدفع بالرجلين إلى الادعاء بأنهما جاءا بجديد في جوهر القرآن.

وفيما عدا احداث السيرة وبعض الأحداث التاريخية وعلاقتها بالقرآن ورسالة الإسلام لا يوجد ما يفاضل بين ترتيب النزول وترتيب المصحف الإمام.

وما عدا ذلك فالقرآن كتاب هداية يتعبد بتلاوته المؤمنون، ومصدر معرفة لعالم الإنسان وعلاقته بالله والكون والحياة، وآياته متفاعلة بإطلاقيتها، وبما تحتوي من كنوز هداية ومعرفة، في علاقة الآيات ببعضها وعلاقة السور ببعضها.

وإذا كان القرآن كما هو في المصحف الإمام، والإستعانة بتاريخ النزول في فهم بعض نصوصه قائمة ولم تتعطل في يوم من الأيام، مع الحفاظ على ترتيب المصحف الإمام، فلما هذا الإصرار من بوكروح على إعادة النظر في ترتيب المصحف الإمام؟ أهو اعتقاده بأن الترتيب الحالي من اجتهاد عثمان رضي الله عنه؟ ام هو تقليد للمستشرقين وكفى؟ أم هو سير في ركاب عملية أكبر من بوكروح وغيره من أبناء المسلمين، كانت بداياتها من بدايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، عندما تقرر الاهتمام بالفكر الإسلامي ومصادره، في إطار صراع بين ثقافاتين وحضارتين، غربية وشرقية عموما وغربية إسلامية خصوصات، وليس بعيدا عن هذا الاهتمام ما أثير في مؤتمر كولورادو التنصيري وغيره من المؤسسات التنصيرية، التي قررت في أساليبها التنصيرية التشكيك في القرآن،  وهذا لا يمكن أن يكون معزولا عن دعوى الأديب طه حسين، في انتحال الشعر الجاهلي في كتابه الشعر الجاهلي سنة 1926، الذي كان ترديدا لمقولة قالها المستشرق مرجليوث الأنجليزي، ومضمون الدعوى هو أن الشعر الجاهلي لا وجود له، والغاية من ذلك هو التأثير على النص القرآني الذي لا يفهم إلا باعتماد النص العربي الجاهلي لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وانتفاء الشعر الجاهلي يعني ضياع لغة القرآن بضياع مادتها الأولية، ولما يمكن فصل هذه المعاني عن محاولة “كتاب الفرقان” الذي هو كتاب نشر قبل سنوات، منسوج على المنوال القرآني، شكلا وتقليدا للمضمون.

 

وإذا كان بوكروح يتحدى “العلماء المزيفون” من الذين نعتوه بالجهل، ندعوه إلى التواضع؛ لأن الذين قالوا فيه ذلك إنما قالوا حقيقة وهي جهله بالقرآن وعلومه، وخوضه لأمر ليس من اختصاصه، اما فيما عدا ذلك منهم من خاطبه بالوزير ومنهم من ثمن ماضيه النضالي، وانا شخصيا أقدر فيه أنه من الجزائريين القلائل الذين اقتحموا عالم الكتابة في سن مبكرة، ولكن العالم والعارف بشيء لا يعلم بالضرورة كل شيء.

مقالات ذات صلة